تفسير سفر المزامير – مزمور ٢٨
تسبيح (شكر) من صلاة مسموعة ومستجابة
هذا المزمور معنون ببساطة: مَزْمُوْرٌ لِدَاوُدَ. وهو يبيّن مرة أخرى داود بن يسّى وهو يهتف نحو الله مسبّحًا (شاكرًا) إياه على استماعه لصلاته واستجابتها. ونحن نرى في هذا المزمور القلب في عدة جوانب مختلفة: القلب الشرير (مزمور ٣:٢٨)، والقلب الواثق (مزمور ٧:٢٨)، والقلب المبتهج (مزمور ٧:٢٨).
أولًا. صلاة التماس، وتقديم طلبات
أ ) الآيات (١-٢): يطلب داود أن تُسمع صلاته.
١إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخُ. يَا صَخْرَتِي، لاَ تَتَصَامَمْ مِنْ جِهَتِي، لِئَلاَّ تَسْكُتَ عَنِّي فَأُشْبِهَ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ. ٢اسْتَمِعْ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ أَسْتَغِيثُ بِكَ وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى مِحْرَابِ قُدْسِكَ.
١. إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخُ. يَا صَخْرَتِي، لَا تَتَصَامَمْ مِنْ جِهَتِي: يعبّر داود في افتتاحية المزمور هذه عن كل من ثقته ورجائه. فبالإيمان أعطاه الله اللقب الذي تاق إلى تحقيقه، وهو أن يكون صخرة داود في وقت ضيقه. قال داود هذا على رجاء، لأنه في تلك اللحظة أحس بأن الله تصامَمَ عنه (لَا تَتَصَامَمْ مِنْ جِهَتِي).
· قال داود إن الرب كان صخرته، أي أساسه وثباته وأمانه. “إنها لحقيقة رائعة أن تعبير ’صخرة‘ في كل كتابات العهد القديم كان مقصورًا في تطبيقه على الله… ولم يطبَّق على بشر.” مورجان (Morgan)
٢. لِئَلَّا تَسْكُتَ عَنِّي فَأُشْبِهَ ٱلْهَابِطِينَ فِي ٱلْجُبِّ: أحس داود في ضيقه بأن القبر قريب – وإذا لم يتدخل الله، فلن يعيش طويلًا. كانت استجابة الله وتدخُّله (على نقيض تصامُمه) هو ما يحتاج إليه داود ويتوق إليه.
· “يرجح أن يكون الضيق هنا مرضًا أو يأسًا عميقًا، وليس الخوف هنا خوفًا من الموت في حد ذاته، بل من الموت مع خزي غير مستحق.” كيدنر (Kidner)
· لكي يتجنب داود هذا الخزي، كان محتاجًا إلى أن يسمع من الله ولا يبقى صامتًا (لِئَلَّا تَسْكُتَ). “يبدو الرب أصمّ عندما لا تُستجاب صلاة، وهو صامت عندما لا يتكلم في الإنقاذ.” ماكلارين (Maclaren)
· “قد يَقْنع المهتمون بالشكليات بأن يقدموا صلوات من دون استجابة، وأما المتضرعون الحقيقيون فلا يَقْنعون بذلك أبدًا. فهم لا يرضون بنتائج الصلاة نفسها على أنها تهدئة الفكر وإخضاع الإرادة – فلا بد لهم أن يقطعوا شوطًا آخر ليحصلوا على أجوبة حقيقية من السماء، وإلا فإنهم لا يستطيعون أن يرتاحوا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. إِذْ أَسْتَغِيثُ بِكَ وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى مِحْرَابِ قُدْسِكَ: استخدم داود أسلوبي التكرار والتوازي في الشعر العبري ليقول الشيء نفسه بطريقتين. كانت صلاته صرخة إلى الله، واتخذ جسده الوضعية التقليدية للصلاة (أَرْفَعُ يَدَيَّ).
· “كانت هذه إيماءة عادية في الصلاة تعبّر عن إيمان (إذ كانوا يمدون أيادي مفتوحة كمتسولين توّاقين إلى الحصول على الاستجابة).” تراب (Trapp)
· يعتقد بعضهم (من بينهم كلارك) أن تعبير مِحْرَابِ قُدْسِكَ يبرهن أن داود لم يكتب هذا المزمور، وأنه كُتب في وقت لاحق عندما بُني الهيكل. وليس هذا أمرًا ضروريًّا، لأن خيمة الاجتماع (التي كانت موجودة بالفعل في زمن داود) كانت محرابًا مقدسًا أيَضًا.
- “لا يلزم أن يعني هذا أن هذا المزمور يعود إلى فترة لاحقة من حياة داود، بل يعني فقط أن هذا التعبير صار التعبير القياسي لمسكن تابوت العهد بحلول حكم سليمان، الأمر الذي يوحي بأنه كان مستخدمًا قبل ذلك بوقت طويل.” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (٣-٥): يطلب داود ألاّ يشترك في مصير الأشرار.
٣لاَ تَجْذِبْنِي مَعَ الأَشْرَارِ، وَمَعَ فَعَلَةِ الإِثْمِ الْمُخَاطِبِينَ أَصْحَابَهُمْ بِالسَّلاَمِ وَالشَّرُّ فِي قُلُوبِهِمْ. ٤أَعْطِهِمْ حَسَبَ فِعْلِهِمْ وَحَسَبَ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ. حَسَبَ صُنْعِ أَيْدِيهِمْ أَعْطِهِمْ. رُدَّ عَلَيْهِمْ مُعَامَلَتَهُمْ. ٥لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَبِهُوا إِلَى أَفْعَالِ الرَّبِّ، وَلاَ إِلَى أَعْمَالِ يَدَيْهِ، يَهْدِمُهُمْ وَلاَ يَبْنِيهِمْ.
١. لَا تَجْذِبْنِي (تأخذني) مَعَ ٱلْأَشْرَارِ: كان داود سعيدًا بمعرفته بأن حياته مختلفة عن حياة فَعَلَةِ ٱلْإِثْمِ، وطلب من الله أن يعامله بطريقة مختلفة عن معاملته للأَشْرَارِ.
· “إن ما هو أسوأ من أن يخضع داود لمشيئة الأشرار (فيؤذوه كما يريدون، وهذا هو الخوف الذي عبّر عنه في مزمور ١٢:٢٧) أن يشاركهم الخزي الذي استحقوه.” كيدنر (Kidner)
٢. ٱلْمُخَاطِبِينَ أَصْحَابَهُمْ بِٱلسَّلَامِ وَٱلشَّرُّ فِي قُلُوبِهِمْ: عندما فكّر داود في وصف الأشرار، بدأ يلاحظ أنهم كاذبون في كلامهم، حيث يخبئون ٱلشَّرَّ فِي قُلُوبِهِمْ.
· “الكلمات الناعمة المزيّنة بمحبة مزيّفة هي الشبكة المخادعة الجهنمية التي يلتقط منها إبليس حياة ثمينة. وقد أتقن كثيرون من أبنائه صناعته البغيضة. وهم يصطادون بشبكة أبيهم بنفس مهارته تقريبًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. حَسَبَ صُنْعِ أَيْدِيهِمْ أَعْطِهِمْ: كان داود في أوقات خطيته يطرح نفسه على رحمة الله ويطلب غفرانًا على أعماله. وهنا يصلي من أجل دينونة قاسية على الأشرار، طالبًا من الله أن يتعامل معهم حَسَبَ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ.
· ولكي يؤكد داود هذه النقطة، كرر نفس الفكرة بأربعة تعابير مختلفة:
ü حَسَبَ فِعْلِهِمْ.
ü حَسَبَ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ (جهودهم الشريرة).
ü حَسَبَ صُنْعِ أَيْدِيهِمْ.
ü حسب ما يستحقون (رُدَّ عَلَيْهِمْ مُعَامَلَتَهُمْ).
· “ليس هذه الآيات مجرد رغبة في الانتقام أو الاقتصاص، لكنها تعبّر عن احتجاج ضمير صحي على مساوئ النظام الحالي والاقتناع بأن يوم الدينونة ضرورة أخلاقية.” كيدنر (Kidner)
٤. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَبِهُوا إِلَى (لم يضعوا في اعتبارهم) أَفْعَالِ ٱلرَّبِّ، وَلَا إِلَى أَعْمَالِ يَدَيْهِ: عندما نظر داود إلى أعمال الأشرار، نظر أيضًا كيف أنهم يتجاهلون عمل الله الخلاق. كان هذا بالنسبة لداود دليلًا على أن هنالك آثمًا مستعدًّا للدينونة.
· عبّر بولس عن هذه الفكرة في رسالة رومية ٢٠:١-٢١ “أَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ، أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ.”
· “تكشف أعمال الرب في الخليقة والفداء وحكم الرب من خلال داود أعجوبة قصد الله. ويمثل تاريخ الفداء إدانة للأشرار.” فانجيميرين (VanGemeren)
٥. يَهْدِمُهُمْ وَلَا يَبْنِيهِمْ: ينسى الأشرار الله، لكن الله لا ينساهم. فهو يعد بأن يعطي الذين يرفضونه ما يستحقونه.
ثانيًا. صلاة شكر في سعادته لاستجابة الله لصلاته
أ ) الآيات (٦-٧): يشكر الرب الذي يستجيب للصلاة.
٦مُبَارَكٌ الرَّبُّ، لأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ تَضَرُّعِي. ٧الرَّبُّ عِزِّي وَتُرْسِي. عَلَيْهِ اتَّكَلَ قَلْبِي، فَانْتَصَرْتُ. وَيَبْتَهِجُ قَلْبِي وَبِأُغْنِيَتِي أَحْمَدُهُ.
١. مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ، لِأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ تَضَرُّعِي: صرخ داود إلى الله في ضيقه. وهو الآن يبارك الرب الذي سمعه واستجاب لصلاته، فصار قوّة داود وتُرسه (عِزِّي وَتُرْسِي).
· “تصبح الصلاة فجأة ترنيمة شكر (تسبيح)، عمل عبادة.” مورجان (Morgan)
· “هذا الشكر مؤسس على سبب تبيّنه كلمة ’لِأَنَّهُ.‘ يرتكز الشكر الحقيقي على أسباب كافية مُجْبِرة. ليس عاطفة غير عقلانية، بل يتدفق، كينبوع نقي، من أعماق الخبرة.” سبيرجن (Spurgeon)
· إنه أمر جميل أن نقول، ’عِزِّي (قوّتي) وَتُرْسِي.‘ يمتلك بعضهم معرفة نظرية بالله كقوة وترس من دون أن يعرفوا خيرها وصلاحها في حياتهم الفردية.
· “صديقي العزيز، إن كنت قادرًا على أن تقول ’ٱلرَّبُّ عِزِّي (قوّتي) وَتُرْسِي،‘ يمكنك أن تحتمل أي شيء وكل شيء. يمكنك أن تحتمل ميتة الشهيد إن كان الرب قوّتك. إذ يستطيع أن يجعل ساق حبة حنطة يحمل العالم كله إن كان قد قوّاك.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. عَلَيْهِ ٱتَّكَلَ قَلْبِي، فَٱنْتَصَرْتُ (فأعانني): هنا يضيف داود شهادة أشخاص لا حصر لهم وجدوا عونًا عندما اتكلوا على الله. وقد جلب هذا ابتهاجًا وترنيمًا عظيمًا لداود.
· عرف داود أن الله استجاب لصلاته قبل أن تصبح هذه الاستجابة في متناول يد داود. “إنها إضافة حديثة في اللاهوت الحديث أن يقال إنه لا يستطيع أحد أن يعرف متى يسمع ويستجيب الله لصلواته. فالديانة الحقيقية لا تعرف مثل هذه التعاليم البغيضة، بل تعلِّم النذيرين أن يصلّوا إلى الله ويتوقعوا جوابًا منه، وأن يتطلعوا إلى الروح القدس ليحمل مع أرواحهم الشهادة أنهم أبناء وبنات لله.” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (٨-٩): تسبيح للرب الذي هو قوة شعبه.
٨الرَّبُّ عِزٌّ لَهُمْ، وَحِصْنُ خَلاَصِ مَسِيحِهِ هُوَ. ٩خَلِّصْ شَعْبَكَ، وَبَارِكْ مِيرَاثَكَ، وَارْعَهُم وَاحْمِلْهُم إِلَى الأَبَدِ.
١. ٱلرَّبُّ عِزٌّ (قوة) لَهُمْ، وَحِصْنُ (ملجأ) خَلَاصِ مَسِيحِهِ هُوَ: تُعطى هذه البركة للمتكلين على الله. فالله يصبح عزّهم أو قوّتهم. وهو لا يعطي قوة فحسب، بل هو نفسه قوتهم (عِزٌّ لَهُمْ)، وهو ملجأ للذي مسحه (حِصْنُ خَلَاصِ مَسِيحِهِ هُوَ).
· تذكّرنا كلمة ’مَسِيحِهِ‘ (ممسوحه mashiach) بذاك الممسوح النهائي، يسوع المسيّا. وكل الممسوحين آمِنون في المسيّا، ولهذا فإنهم أقوياء وآمِنون.
٢. خَلِّصْ شَعْبَكَ، وَبَارِكْ مِيرَاثَكَ، وَٱرْعَهُمْ وَٱحْمِلْهُمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ: يختتم داود المزمور بسلسلة من الصلوات القصيرة طالبًا من الله أن يجلب لشعبه ما يتوقون إليه.
· بدأ المزمور بطلب عون وإنقاذ شخصي. لكننا نجد نحو نهاية المزمور أن همَّ داود هو شعب الله ككل. “إن كل ما هو عزيز على المحبوب عزيز على المحب أيضًا. فلا تستطيع أن تحب راعيًا من دون أن تهتم بكل ما يهمه، ولا سيما خراف مرعاه وأهل أرضه. ومن هنا، عندما تكون أقرب ما تكون إلى الرب، فإن من المؤكد تقريبًا أنك ستبدأ بالصلاة من أجل ميراثه قائلًا: خَلِّصْ شَعْبَكَ، وَبَارِكْ مِيرَاثَكَ، وَٱرْعَهُمْ وَٱحْمِلْهُمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ.” ميير (Meyer)
ü خَلِّصْهم: يحتاج شعب الله إلى خلاص، وهم يتطلعون إلى الله من أجل ذلك.
ü بَارِكْهُم: يحتاج شعب الله إلى بركته ورضاه، وهم يتلقون ذلك بكونهم ميراثه.
ü ٱرْعَهُم: يحتاج شعب الله إلى رعايته وإرشاده كما يرشد راعٍ قطيعه. “تدل الكلمة المترجمة إلى ’يرعى‘ (Raah) على ’يطعم‘ و ’يحكم‘ في الوقت نفسه. أَطعِمْهم كما يطعم الراعي خرافه، واحكمهم كما يحكم أب أبناءه.” كلارك (Clarke)
ü ٱحْمِلْهُمْ: يحتاج شعب الله إلى حضوره الدائم المقوّي – وهم يحتاجون إليه إِلَى ٱلْأَبَدِ.
- “لا يقودنا يسوع إلى مجرد مراعٍ خضر ومياه راحة. بل يحملنا، وهو يفعل ذلك إلى الأبد. ورغم أنه يمنحنا راحة غير محدودة، فإنه لا يتعب أبدًا، ولا يتوقف للحظة عن رعاية خرافه.” ميير (Meyer)