تفسير سفر المزامير – مزمور ٦٤
مؤامرات سرية وصرخات فجائية
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. وكما هو الحال مع مزامير كثيرة من مزامير داود، فإنه يتناول أزمة دفعته إلى الصراخ إلى الله. وإنه لأمر مستحيل أن نربط هذا المزمور بحدث معين في حياة داود على نحو مؤكد.
أولًا. الهجوم الشرير
أ ) الآيات (١-٤): أسلحة الشرير اللفظية.
١اِسْتَمِعْ يَا اَللهُ صَوْتِي فِي شَكْوَايَ. مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ احْفَظْ حَيَاتِي. ٢اسْتُرْنِي مِنْ مُؤَامَرَةِ الأَشْرَارِ، مِنْ جُمْهُورِ فَاعِلِي الإِثْمِ، ٣الَّذِينَ صَقَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ كَالسَّيْفِ. فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَمًا مُرًّا، ٤لِيَرْمُوا الْكَامِلَ فِي الْمُخْتَفَى بَغْتَةً. يَرْمُونَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ.
١. اِسْتَمِعْ يَا ٱللهُ صَوْتِي فِي شَكْوَايَ (تأمُّلي): هذه عبارة تنطوي على شيء من التعقيد (إذا كان التأمل هنا صامتًا). فإما أنّ داود عنى أن تأمّله (شَكْوايَ) سيكون لفظيًا، بحيث يسمع الله صوته المادي، وإما أن الله سيسمع التعبير الصامت لقلبه بصفته صوته. وفي أيٍّ من الحالتين، وكما في مرات كثيرة في المزامير، صرخ داود إلى الله طالبًا العون.
· “لا يملك إلا أن يصلي، وهو يستطيع أن يصلي. ولا يكون الإنسان عاجزًا إذا تطلّع إلى فوق. فمهما كانت الأسوار التي يبنيها الناس أو الأحزان حولنا عالية وسميكة، إلا أنه توجد فتحة في سقف الزنزانة تكون السماء منظورة منها، وتصعد الصلوات من خلالها.” ماكلارين (Maclaren)
٢. مِنْ خَوْفِ ٱلْعَدُوِّ ٱحْفَظْ حَيَاتِي: تدل كلمة ’خَوْفِ‘ هنا على الخوف الشديد أو الرعب، وهي تشير إلى خوف أكبر من خوف المعارك العادي. فقد عرف داود أن مثل هذا الخوف سيشلّه، ولهذا صلى لكي يُحفظ منه.
· “لاحظ في الشطر الثاني كلمة ’خَوْفِ‘ (رعب)، وهو خوف يشل الإنسان، بينما يمكن أن يكون الخوف العادي مُنبِّهًا وصحّيًّا للإنسان.” كيدنر (Kidner)
· “تكشف كل جملة الغضب الشديد الذي لا هوادة فيه للأعداء المحيطين به، وقساوتهم وعدم ندمهم. ولأنه كان واعيًا لهذا كله، كان لديه خوف واحد، وهو أن يخافهم.” مورجان (Morgan)
· “ينبغي أن نصلي كما صلى صاحب المزمور، لا من الإنقاذ من الأعداء بقدر الإنقاذ من خوفهم.” مورجان (Morgan)
٣. ٱسْتُرْنِي (خبِّئني) مِنْ مُؤَامَرَةِ ٱلْأَشْرَارِ: عرف داود أن هنالك أعداء خطرين يتآمرون من أجل إهلاكه. وأحس بأنه عاجز عن إيقافهم، ولهذا صلى. تقول بعض الترجمات ’خبِّئْني مِنْ مُؤَامَرَةِ ٱلْأَشْرَارِ.‘ وهذه ترجمة جيدة.
· “هذه هي محنة المرنم. إن طرفي المعركة غير متكافئتين. فخصومه غير مكشوفين في العراء، بل متخفّون.” مورجان (Morgan)
· “لا يحتملون أن تكون معارضتهم صريحة (كما في رسالة كورنثوس الثانية ٢:٤ ’بإظهار الحق‘ ورسالة غلاطية ١١:٢ ’قاومته مواجهةً‘).” كيدنر (Kidner)
٤. صَقَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ كَٱلسَّيْفِ. فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلَامًا مُرًّا: تمثّلت المؤامرات السرية على داود في كلمات وأكاذيب تهدف كلها إلى تدميره وموته. وليست هذه مسألة كلمات مؤذية، بل كانت مؤامرة نشطة لقتله.
· “في سياق هذه الحرب من الأكاذيب والتشهير، سيكون الكمين إما موقفًا يجَرَّم فيه شخص بريء بتلفيق تهم له، وإما أن تُنشر إشاعات مغرِضة هدامة من شخص مجهول من مكان مجهول من دون خوف.” كيدنر (Kidner)
· “الكاذب العلني ملاك بالمقارنة مع مثل هذا الشيطان. فأفاعي الكوبرا غير مؤذية، بل جديرة بالإعجاب بالمقارنة مع مثل هذا الحيوان الزاحف. وربما يحمرّ وجه إبليس خجلًا من كونه أبًا لمثل هذه الذرية المنحطة.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. لِيَرْمُوا ٱلْكَامِلَ فِي ٱلْمُخْتَفَى بَغْتَةً. يَرْمُونَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ: عرف داود أن أعداءه أطلقوا كلماتهم المُرّة كسهام ضده. وعندما فعلوا ذلك، لم يزعجهم هذا على الإطلاق. ولم يخشوا داود أو الله.
· يؤكد المزمور ٦٤ الطبيعة الملتوية لأعداء داود. فهم يستخدمون مؤامرات سرية، ويُطلقون سهامهم سرًّا، ويهجمون فجأة. ولأن داود يذكر هجومًا مفاجئًا بالسهام من مكان خفيّ سري، فإنهم يتصرفون كالقنّاصين في هذه الأيام. (فهم قنّاصون من الطراز القديم).
· “الكلمة المفتاحية في المزمور ٦٤ هي ’بَغْتَةً،‘ وهي تعني ’على غير تَوَقُّع‘ أو ’من دون إنذار.‘” بويس (Boice)
· عرف داود كم هو خطِر أن يكون في معركة عندما يكون رامي السهام يتصرف كقنّاص. فلو كان بمقدوره أن يواجهه على مستوى فردي، فستكون فرصته كبيرة. لكن القنّاص الخفي هَمٌّ كبير… أن يُطرَح بسهم لم يرَه قط قادمًا إليه.
· لم يستخدم أعداء داود سهامًا فعلية، لكنهم هاجموه سرًّا، متنكِّرين من دون الشجاعة للإعلان عن هويتهم أو لقول هذه الأمور في وجهه. أطلقوا كلماتهم كقنّاص يطلق النار على شخص ليست لديه طريقة يدافع بها عن نفسه.
ب) الآيات (٥-٦): يدبّرون أمرًا شريرًا سرًّا.
٥يُشَدِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ لأَمْرٍ رَدِيءٍ. يَتَحَادَثُونَ بِطَمْرِ فِخَاخٍ. قَالُوا: «مَنْ يَرَاهُمْ؟ ». ٦يَخْتَرِعُونَ إِثْمًا، تَمَّمُوا اخْتِرَاعًا مُحْكَمًا. وَدَاخِلُ الإِنْسَانِ وَقَلْبُهُ عَمِيقٌ.
١. يُشَدِّدُونَ (يشجعون) أَنْفُسَهُمْ لِأَمْرٍ رَدِيءٍ: سيكون الأمر سيئًا بما يكفي لو أن فردًا قصدَ هذا الشر تجاه داود. فالأمر أسوأ من ذلك. إذ تآمر عليه كثيرون مخططين لأشراك وفخاخ، غير خائفين بشرًا أو الله – (مَنْ يَرَاهُمْ؟).
· “يعتقدون في حماقتهم أنهم ليسوا تحت المساءلة أمام أحد، كما يعبّر عن هذا سؤالهم الواثق: مَنْ يَرَاهُمْ؟” فانجيميرين (VanGemeren)
· يُشَدِّدُونَ (يشجعون) أَنْفُسَهُمْ: “غالبًا ما يُحبَط الصالحون، وربما يُحبِطون بعضهم بعَضًا. لكن أبناء الظلمة حكماء في جيلهم، حيث يحافظون على روحهم المعنوية. إذ لدى كل واحد منهم كلمة تشجيع لشرير رفيق له.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. تَمَّمُوا ٱخْتِرَاعًا مُحْكَمًا: كانوا يتباهون بمكيدتهم الشريرة. تفاخروا بخطاياهم مُظهرين أعماق الظلمة في فكرهم وقلبهم.
· يَخْتَرِعُونَ إِثْمًا: “هم يفتشون في جمجمة إبليس عن اختراعات كثيرة. وهو مستعد لأن يقرضهم سبعة رؤؤس لحَبْكِ المؤامرات وعشرة قرون لينطحوا بها الصالحين.” تراب (Trapp)
· دَاخِلُ الإِنْسَانِ وَقَلْبُهُ عَمِيقٌ: “الفكر الداخلي لقلب الإنسان عميق. تدل الكلمة العبرية ’عَمِيقٌ‘ على عمق الإنسان. والفكرة هنا هي أنه بلا قاع تقريبًا من حيث إمدادات أعمال الشر والمكر.” بويس (Boice)
ثانيًا. استجابة الله
أ ) الآيات (٧-٩): يرد الله بسهمه الخاص.
٧فَيَرْمِيهِمِ اللهُ بِسَهْمٍ. بَغْتَةً كَانَتْ ضَرْبَتُهُمْ. ٨وَيُوقِعُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يُنْغِضُ الرَّأْسَ كُلُّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ. ٩وَيَخْشَى كُلُّ إِنْسَانٍ، وَيُخْبِرُ بِفِعْلِ اللهِ، وَبِعَمَلِهِ يَفْطَنُونَ.
١. فَيَرْمِيهِمِ ٱللهُ بِسَهْمٍ: تصرف أعداء داود كما لو أنهم يمتلكون كل السهام. لكن الله كان دفاعه، وهو مسلّح تسليحًا جيدَا. إذ لديه سهم خاص، يجرحهم به (بَغْتَةً كَانَتْ ضَرْبَتُهُمْ).
· أطلق أعداء داود سهامهم كقنّاصين من مراكز خفية ومرتفعة. وكان ٱلله صديق داود، وهو في مركز أعلى وأكثر سرية. لقد أطلقوا كلماتهم المسمومة عليه على غير توقُّع ومن دون إنذار (بَغْتَةً) – مزمور ٤:٦٤). وسيرد الله بأن يطلق عليهم، لأنهم في مجال نظر الله.
· تُذكّرنا عبارة ’بَغْتَةً كَانَتْ ضَرْبَتُهُمْ‘ (جُرِحوا) بأن دينونة الله على الأشرار تأتي من دون توقُّع ومن دون إنذار. يعتقدون أن كل شيء على ما يرام إلى أن تأتي ضَرْبَتُهُم.
· “يخبرنا الإيجاز في وصف إجراءات الله المُضادة، بعد وصف مكائد الأشرار بتفصيل، عن طبيعتها الحاسمة.” كيدنر (Kidner)
٢. وَيُوقِعُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: استخدموا أكاذيبهم وافتراءاتهم في هجوم على داود. لكن الله سيجد طريقة لجعل كلماتهم مصدر دمار عليهم. وسيعثُرون في الطريق الذي كانوا يضعون فخاخًا لداود ويأملون أن يصطادوه فيه.
٣. وَيَخْشَى كُلُّ إِنْسَانٍ، وَيُخْبِرُ بِفِعْلِ ٱللهِ: كان داود واثقًا بأن الله سيستخدم هذه المعاملات ضد الأشرار كدرس للآخرين. فعندما يرون المتآمرين الأشرار جرحى (مضروبين) من الله، فسيتعلمون.
· سبق أن سأل الأشرار: ’مَنْ يَرَاهُمْ؟‘ (مزمور ٥:٦٤) والجواب هو: سيراهم الجميع، لأن الله سيستخدمهم في تعليم درس لكل إِنْسَانٍ.
· “لِأنَّهُ حِينَمَا تَكُونُ أَحْكَامُكَ فِي الأَرْضِ يَتَعَلَّمُ سُكَّانُ الْمَسْكُونَةِ الْعَدْلَ.” (إشعياء ٩:٢٦ب)
· “سيرتعد الذين كانوا جسورين في الخطية، وسيقفون في رهبة أمام الديّان البار.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآية (١٠): قرار من أجل الأبرار.
١٠يَفْرَحُ ٱلصِّدِّيقُ بِٱلرَّبِّ وَيَحْتَمِي بِهِ، وَيَبْتَهِجُ كُلُّ ٱلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ.
١. يَفْرَحُ ٱلصِّدِّيقُ بِٱلرَّبِّ: سيكون تعامل الله مع الأشرار درسًا لكل بشر. لكنه سيكون أيضًا فرحًا خاصًا للصدّيقين، لأن الله أظهر برّه وحمى خادمه.
· “آجلًا أم عاجلًا، كما سيكون الحزن نصيب أعداء المسيّا، كذلك سيكون الفرح امتيازًا كبيرًا لأحبائه وتلاميذه.” هورن (Horne)
٢. وَيَحْتَمِي بِهِ (ويتكل عليه): لن يجلب هذا فرحًا فحسب، بل سيزيد الإيمان أيضًا. إذ ستكون استجابة الله الأمين للصلاة إثباتًا على أنه جدير بالثقة والاتكال، وستبني إيمان الصدّيقين.
· “ستزيد ملاحظتهم لرعايته الإلهية إيمانهم. فالذي ينفّذ تهديداته لا ينسى وعوده.” سبيرجن (Spurgeon)
- “وهكذا، فإن الاستجابة لطلب أن يُحفظ من خوف أعدائه في الآية الأولى أكثر من كافٍ. ما زالت الدينونة أمرًا مستقبلًا، لكن يمكن أن ينفجر الفرح الآن. إنه فرح مستنير، لأن الصدّيقين واجهوا المعطيات في أسوأ حالاتها، لكنهم واجهوها في أفضل حالاتهم.” كيدنر (Kidner)