تفسير سفر المزامير – مزمور ١٠٣
باركي يا نفسي الرب
عنوان هذا المزمور هو مَزْمُوْرٌ لِدَاوُدَ. لا نعرف الظروف التي دفعته إلى كتابته. لكن بما أن داود كان رجلًا عرف نعمة الله وخلاصه مرات كثيرة، ربما كتبه في أية مرحلة من مراحل حياته المختلفة.
غير أن لسبيرجن (Spurgeon) رأيًا خاصًّا: “ينبغي أن ننسبه إلى سنواته الأخيرة عندما كان لديه إحساس أعلى بقيمة غفران الله بسبب وجود إحساس أكثر حِدّة بالخطية مما كان لديه في أيام شبابه. ويشير إحساسه الواضح بهشاشة الحياة إلى سنواته الأضعف، إضافة إلى امتلائه الكامل بالعرفان بالجميل الجدير بالثناء.”
“ربما كانت هذه أكثر تسبيحة خالصة كمالًا في الكتاب المقدس. وقد رنّمتها على مدى القرون قلوب فرِحة. وهي الآن مفعمة بالحياة والجمال كما كانت على الدوام.” مورجان (Morgan)
أولًا. أسباب لمباركة الله وإكرامه
أ ) الآيات (١-٢): مباركة الله على المزايا التي يقدمها.
١بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ. ٢بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ.
١. بَارِكِي: لم يقصد داود هذا بمعنى أن شخصًا أعظم يبارك شخصًا أدنى. فالله أعظم من كل إنسان بما لا يُحُد. وبهذا المعنى لا يمكن لأي إنسان أن يبارك الرب. لكنه قصده بمعنى أنه يبارك ويكرم الله كشكر وتسبيح مقدَّمين له من خلائقه بشكل ملائم.
٢. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ: دعا داود نفسه إلى أن تبارك يهوه، كما لو أن داود نظر إلى نفسه وفهِم أنها لا تسبّح أو تشكر الرب بما يكفي، ولهذا طلب منها أن تفعل المزيد.
· فهِم داود أن العبادة شيء داخلي عميق. إنها عبادة تقدمها النفس. فهي لا تتعلق بالأشكال والتعابير الخارجية، بل بشيء حقيقي من النفس. “إن موسيقى النفس (الروح) هي نفس (روح) الموسيقى.” سبيرجن (Spurgeon)
· “دعي (يا نفسي) الآخرين يتذمروا، لكن باركي. دعي الآخرين يباركوا أنفسهم وأوثانهم، لكن باركي الرب. دعي الآخرين يستخدموا ألسنتهم، لكن بالنسبة لي، فإني سأصرخ قائلًا: بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ: فهِم داود أن العبادة لا ينبغي أن تكون سطحية. إذ ينبغي أن تقدَّم بشكل تام قدر الإمكان. فأراد لكل ما في داخله (باطنه) أن يبارك الله ويسبحه. فضبط قلبه كما تُضبط الآلات الموسيقية في لحن واحد.
· غالبًا ما نشكر الرب بنصف القلب (لا بقلب كامل) أو أقل! لكن داود دعا كل ما في باطنه (كُلّ ما في باطِنِي) أن يقدم الإكرام والتسبيح لله.
· وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي: “يا له من توبيخ على ما يجري في اجتماعاتنا على أنه تسبيح. فنحن نأتي إلى الكنيسة، لكن نترك عقولنا في البيت. ونحن نسمع عن نعمة الله، بينما تقسّت قلوبنا بروح نقدية صعبة الإرضاء.” بويس (Boice)
· “يخاطب صاحب المزمور نفسه. وهو يدرك أن لديه سلطة عليها، أي أنه قادر على أن يعطي أو يمنع ما هو مستحَق لله.” مورجان (Morgan)
· “إن القيمة الوحيدة في هذه الكلمات الافتتاحية هي أنها تبيّن لنا أن العبادة ليست تلقائية أو آلية. فهي تدعو إلى تناسق كل القوى… فليس المَقْدِس صالة أو مكانًا للاسترخاء. إذ نحن ندخله بكل قِوى شخصيتنا مجتمعةً، ومرتبةً، ومكرسةً. وعندئذ نقدم خدمة تسبيح جديرة ومقبولة.” مورجان (Morgan)
· لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ: “لا يمكن أن يفرح بالأمور المقدسة إلا إنسان مقدس. فالقداسة رعب للأشرار. فهم يحبون الخطية ويعدّونها حرية، بينما يعُدّون القداسة عبودية. فإن كنا مقدَّسين، فسنبارك الله على قداسته.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ: استخدم داود التكرار حسب النمط العبري لغرض التوكيد. ثم أضاف فكرة مهمة، وهي أن التسبيح وإكرام الله ينبغي أن يُقدَّما له لأسباب عقلانية، لا على أساس عاطفة مجردة أو انفعال. فقد أُعطيت حسنات حقيقية لشعب الله منه، ولا يتوجب أن يُنسى هذا. بل ينبغي أن يُستخدم تذكُّرنا لها كأسباب للتسبيح.
· تصف الآية في ٢ أخبار ٣٢: ٢٥ ملك نسي بالفعل حسنات الله، على الأقل لفترة من الزمن: “وَلَكِنْ لَمْ يَرُدَّ حَزَقِيَّا حَسْبَمَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَلْبَهُ ٱرْتَفَعَ، فَكَانَ غَضَبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ.”
· “لا يمكن أن يكون الشكر مخْلِصًا وقلبيًّا ما لم يحمل الإنسان في ذهنه انطباعًا فوريًا بإحساس سريع بحسنات الله التي تلقّاها.” هورن (Horne)
· “التسبيح استجابةُ خشوعٍ لله بينما يتأمل الإنسان في ما فعله الرب من أجل شعبه على مدى تاريخ الفداء، وللخليقة بشكل عام، ولنفسه.” فانجيميرين (VanGemeren)
ب) الآيات (٣-٥): مباركة الله الذي يفدي.
٣الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ. ٤الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. ٥الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ.
١. الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ: من أعظم الحسنات العظيمة المذكورة في الآية ٣ غفران كل آثامنا. فعندما نفهم حجم خطايانا وبرّ الله، يصبح هذا الغفران سببًا مذهلًا لتسبيح الله وإكرامه.
· يبدأ هذا بسلسلة من المزايا العظيمة التي يجلبها الله لشعبه المؤمن. “يختار صاحب المزمور عدة لآلئ مختارة من علبة الجواهر الإلهية ليخيطها معًا على خيط الذكريات ويعلّقها على عُنق الامتنان.” سبيرجن (Spurgeon)
· إنه لأمر ذو دلالة أن هذه المزية ذُكرت أولًا. ففي ذهن داود، كان غفران الخطايا أهم شيء، وهو أهم من الشفاء الجسدي.
· “يكمن الوعي العميق بالخطية، والذي كان أحد الأهداف التي أثارتها الشريعة، في تسبيح صاحب المزمور.” ماكلارين (Maclaren)
٢. الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ: هنالك مزية أخرى يقدّمها الله، وهي الاهتمام بأجسادنا. فهو يجلب لنا الشفاء في هذه الحياة بطرق معجزية وطبيعية معًا. وهو يَعِد بالشفاء النهائي لكل شعبه في الدهر التالي.
· يفهم معظم المفسرين هذه الأمراض على أنها روحية في طبيعتها. وقد وصف هورن (Horne) هذا التفكير: “ما هي الكبرياء إن لم تكن جنونًا؟ وما هي الشهوة إن لم تكن برصًا؟ وما هو الكسل إن لم يكن شللًا؟ ربما تكون هذه الأمراض الروحية مشابهة لأمراض الجسد.” ورغم أنه صحيح أن الخطية تؤدي إلى مرض روحي، إلا أنه يبدو أن داود يشير هنا إلى أمراض جسمية.
· “يعتقد بعضهم أن داود يتحدث عن مرض روحي كأحمال الخطية. لكن هذا غير صحيح. فأنا أعتقد أنه يتحدث في واقع الأمر عن أمراض الجسد. وهو يقول إنه عندما نشفى، كما يحصل في الغالب، فإن الله هو الذي يكون قد فعل هذا. فهو شافي الجسد كما أنه هو شافي النفس. ولهذا فإن الصحة التي أعطانا الله إياها هبة خالصة منه. وينبغي أن نشكره عليها.” بويس (Boice)
٣. الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ: يعرف كثيرون بركة الله القوية في الإنقاذ من الهلاك الأكيد. إذ ينقذ الله أبناءه من كوارث كثيرة، سواء أكانوا يعلمونها أم لا.
· الَّذِي يَفْدِي: “الحفاظ من الهلاك، وهو بالعبرية (haggoel) وهو على نحو دقيق فداء النفس عن طريق الوليّ القريب. وربما يتطلع هذا إلى الأمام، بروح النبوة، إلى ذاك الذي اشترك معنا في اللحم والدم لكي يكون لديه الحق في أن يفدي نفوسنا من الموت بموته بدلًا منا.” كلارك (Clarke)
٤. الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ: تتجاوز عظمة الله غفران خطايانا، وشفاءنا من المرض، وإنقاذنا من الضيق. فمن خلال بركة الله، فإننا نتوَّج بمحبته العظيمة ورحمته.
٥. الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ: إن نتيجة عمل الله في كل ما يخلّصنا منه وله هو أن يجلب إشباعًا لحياتنا. وهذا أمر مختلف من مجرد المتعة أو التسلية. فالله يجلب إشباعًا حقيقيًّا لحياتنا بأشياء صالحة (بِالْخَيْرِ). ويصبح هذا الإشباع مصدر قوة وطاقة لشعبه (فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ).
· “الله هو الذي يعطينا الأشياء الصالحة (الخير) في هذا العالم، وهو أيضًا الذي يعطينا شهية وذوقًا لنتمتع بها.” هورن (Horne)
· الَّذِي يُشْبعُ: “لا يَشبع للتمام إلا المؤمن، ولا يمكن أن يشبعه غير الله. يُتخَم أشخاص كثيرون دنيويون، لكن لا يشبع واحد منهم.” سبيرجن (Spurgeon)
· فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ: لا يوحي السطر الثاني بأن للنسور قوة لتجديد نفسها. فالله هو وحده الذي يحولنا إلى الصورة الحقيقية للقوة المنشَّطة التي لا تكل ولا تمل، وهي الفكرة التي سيصورها إشعياء لاحقًا في ٤٠: ٣٠ فصاعدًا.” كيدنر (Kidner)
ج) الآيات (٦-٧): مباركة الله البار.
٦اَلرَّبُّ مُجْرِي الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ لِجَمِيعِ الْمَظْلُومِينَ. ٧عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ.
١. اَلرَّبُّ مُجْرِي الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ لِجَمِيعِ الْمَظْلُومِينَ: وصف داود في القسم السابق عظمة الله في عمله من أجل الأفراد. غير أن الله يُظهر عظمته في جلب البر والعدالة للمجتمعات.
· “لا يتوجب أن تكون التزاماتنا الشخصية الخاصة هي أن نستوعب أغنيتنا. بل يتوجب علينا أن نعظم الرب على صلاحه نحو الآخرين.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ: يتمثل جانب آخر من عظمة الله في إعلانه الذاتي. كان بمقدور الله أن يَقْنع بإخفاء ذاته، لكنه بدلًا من ذلك، أراد أن يعلن طُرُقَهُ وأَفْعَالَهُ.
د ) الآيات (٨-١٠): مباركة الله العطوف.
٨الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ. ٩لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ. ١٠لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا.
١. الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ: وصف داود في السطور السابقة بر الله وعدالته. وهذان الجانبان من طبيعته الأدبية صحيحان، مثل رحمته ورأفته. ويأتي غضبه، لكن ببطء، بعد إظهار رحمة كثيرة.
· “يتذوق العالم كله رحمته التي تعفو. ويشارك الذين يستمعون إلى رسالة الإنجيل في رحمته الداعية (المُنادِية). ويعيش القديسون برحمته المخَلِّصة، ويُحفظون برحمته العاضدة، ويتشددون برحمته المعزية، وسيدخلون السماء برحمته الأبدية اللامتناهية.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ: تذكّرنا تصريحات داود بإعلان الله عن نفسه لموسى في سفر الخروج ٣٤ “ٱلرَّبُّ إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلْإِحْسَانِ وَٱلْوَفَاءِ” (خروج ٣٤: ٦).
· لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ: “تشير هذه التعابير إلى المقابلة بين لطف الله وغضب الإنسان الذي يحب أن يواصل مشاجراته. والكلمة المترجمة إلى ’يُحَاكِمُ‘ تعبير يُستخدم في النزاعات ولا سيما في القانون وتدل على الإصرار على تغذية الشكوى والخلاف.” كيدنر (Kidner)
٣. لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا: عرف داود بُطء غضب الله ورحمته الكثيرة بشكل شخصي. فقد عرف أن خطاياه وخطايا شعبه كانت تستحق دينونة أعظم أو تأديبًا أكبر مما حصلوا عليه.
· “علينا أن نشكر الرب على ما فعله، إضافة إلى ما صنعه معنا. فحتى الجانب السلبي يستحق امتناننا الشديد.” سبيرجن (Spurgeon)
· “ولماذا لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا؟ أليس السبب هو أنه صنع مع آخر حسب خطايانا؟ فهذا الآخر أخذ خطايانا على نفسه.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيكر (Baker)
هـ) الآيات (١١-١٢): عظمة غفران الله في رأفته.
١١لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. ١٢كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا.
١. مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ: هذا وصف لكثرة رحمة الله المذكورة في الآية ٨. فبعد الأرض من السماء هو قياس عظمة رحمته تجاه الذين يخافونه. وغالبًا ما نفكر بالغريزة أن رحمة الله هي أقل مما هي عليه في الواقع.
· كانت هنالك ثلاثة تصورات للسماء في العالم الكتابي القديم. فالسماء الأولى هي السماء الزرقاء، حيث الجو والشمس. والسماء الثانية هي سماء الليل بنجومها ومجراتها. والسماء الثالثة هي المكان الذي يسكن فيه الله متوَّجًا. وإنه لأمر مثير للاهتمام أن نتساءل أي سماء خطرت ببال داود في هذه الآية.
٢. كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ: هذا وصف لغفران الله المذكور في الآية ١٠. وليست لدينا فكرة إن كان داود عرف شكل الأرض، لكن الروح القدس الذي ألهمه المزمور كان يعرف. وتجعل طبيعة الأرض وطريقة وصفنا للاتجاهات هذه العبارات ملهِمة على نحو خاص.
· كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا أقوى من القول: كَبُعْدِ الْشَمالِ مِنَ الْجَنُوبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. فإذا ارتحلتَ من الجنوب شمالًا في كوكبنا، ستصل إلى نقطة معينة، هي القطب الشمالي. لكن إذا ارتحلت شرقًا، فستسمر شرقًا إلى الأبد. وفي ضوء شكل الأرض الحقيقي، فإن الشرق والغرب لا يلتقيان. فهكذا أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا!
· “كما أن الشرق والغرب لا يلتقيان في نقطة واحدة، لكن المسافة بينهما تبقى إلى الأبد، كذلك فإن خطايانا وعقابها المرسوم أُبعِدا إلى مسافة أبدية بفضل رحمته.” كلارك (Clarke)
· “الله يحبنا، وسيحبنا إلى الأبد. فهو يحبنا إلى ما لا نهاية. وليس بوسعه أن يحبنا أكثر من ذلك حتى لو لم نسقط قط.” سبيرجن (Spurgeon)
و ) الآيات (١٣-١٤): مباركة الله الذي يُظهر تعاطفًا عظيمًا.
١٣كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. ١٤لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ.
١. يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ: يواصل داود وصف رحمة الله الكثيرة وصلاحه. فكما يهتم أب صالح بأبنائه ويعطف عليهم (كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ) بسبب هشاشتهم وضعفاتهم، كذلك يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ.
· فكّرْ في أب محب يتعامل مع أبنائه المتعبين. فهو لا يطالبهم بأكثر مما يستطيعون أن يفعلوه، إذ يأخذ في حسابه ضعفهم، وهو يشدّدهم ويقيس توقعاته منهم حسب حكمته ورأفته.
· ذكر سبيرجن (Spurgeon) الطرق الكثيرة التي يمكن بها أن يَتَرَأَفَ الرَّبُّ عَلَى أبنائه:
ü يترأف على جهلنا الصبياني.
ü يترأف على ضعفنا الصبياني.
ü يترأف على حماقتنا الصبيانية.
ü يترأف على وقاحتنا الصبيانية.
ü يترأف على عثراتنا وسقطاتنا الصبيانية.
ü يترأف على ألمنا.
ü يترأف على ابن له عندما يسيء إليه شخص آخر.
ü يترأف على مخاوفنا.
· “جاءت كلمة ’يترأف‘ في صيغة المضارع، وهي تحمل معنى الاستمرار. فهو في هذه اللحظة يَتَرَأَفُ عَلَى خَائِفِيهِ. رغم أنه يعرف أن شدائدك وتجاربك ستعمل من أجل خيرك، إلا أنه يترأف عليك. رغم أنه يعرف أنه توجد خطية في حياتك ربما تتطلب تأديبًا قاسيًا قبل أن تتقدس، إلا أنه يترأف عليك. رغم أنه يستطيع أن يسمع موسيقى السماء والترانيم والطرب التي ستأتي في نهاية الأمر من تنهُّداتك وأحزانك، إلا أنه يترأف على أنينك ونواحك.” سبيرجن (Spurgeon)
· “قد نتوه في اتساع السماء الممتدة، لكن رمز هذه المحبة الأبوية يصل إلى القلب مباشرة. إنه إله رؤوف. فماذا يمكن أن تضيف إلى هذا؟” ماكلارين (Maclaren)
· رد الفعل الحكيم هو ’مخافة الرب!‘ إنه أفضل بكثير لنا أن نكون على جانب رأفته وتحنُّنه من أن نكون على جانب غضبه أو دينونته البارة.
٢. لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا: رأفة الله وشفقته على خائفيه متجذّرتان في معرفته وفهمه في ضعفهم المتأصل، وعدم ثباتهم، وقابليتهم للزوال.
· “الكلمة المترجمة إلى ’جِبْلة‘ هنا هي حرفيًّا ’تشكيل‘ أو ’صياغة،‘ وهي مشتقة من جذر الفعل المستخدم في سفر التكوين ٢: ٧ في وصف الإنسان: ’جبلَ الرب الإله آدم ترابًا من الأرض.‘ ويُستخدم أيضًا في وصف عمل الفخاري في تشكيل الأواني الخزفية (إشعياء ٢٩: ١٦). وهكذا فإن كلمة ’التراب‘ في نفس السياق تحمل تلميحًا إلى سفر التكوين. وهي توصل فكرة الهشاشة بشكل عام.” ماكلارين (Maclaren)
· “يضع الله في اعتباره في كل معاملاته معنا هشاشة طبيعتنا، وظروفنا غير المواتية، وقوة التجربة وتعقيدها، والمَفْرَزة الأكيدة التي يضعها المجرب داخلنا (إلى أن يُجدَّد القلب).” كلارك (Clarke)
· تحوّلت الرأفة والتذكر إلى تقمُّص عند التجسد. فقد أضاف الله إلى نفسه طبيعة بشرية إلى ألوهته، واختبر جبلتنا وضعفنا الشبيه بالتراب. فما عرفه بالملاحظة خضع لمعرفته بالخبرة.
ثانيًا. صور المقابلة تُظهر عظمة الله
أ ) الآيات (١٥-١٨): المقابلة بين لَحْظِيّة الإنسان ودوام الله.
١٥الإِنْسَانُ مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ. كَزَهَرِ الْحَقْلِ كَذلِكَ يُزْهِرُ. ١٦لأَنَّ رِيحًا تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ. ١٧أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيهِ، وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي الْبَنِينَ، ١٨لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ لِيَعْمَلُوهَا.
١. الإِنْسَانُ مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ: وسّع داود فكرة جِبلة الإنسان الضعيفة وطبيعته المشابهة للتراب. فالبشرية زائلة، حتى إن أيام الإنسان هي مِثْلُ الْعُشْبِ وكَزَهَرِ الْحَقْلِ الذي يتفتح يومًا ليذبل في اليوم التالي. وعندما يذبل الزهر، لا يبقى شيء عمليًّا، ولن يُذكر بعد – وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ.
· “زهر الحقل أكثر عرضة للرياح وأشكال العنف من زهور الحديقة التي يرعاها البستاني بفنّه.” بوله (Poole)
· “ذبُل الزهر في آدم، وتَفَتَّحَ في المسيح فلا يذبل ثانية.” هورن (Horne)
٢. أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ: ينطبق هذا على الله نفسه كما ينطبق على رحمته. فهو مصدر الرحمة. وتدوم رحمته (بالعبرية – حِسِد)، محبته العهدية، ولطفه المتسم بالولاء على مدى الأجيال (فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ). وسيحصل خائفوه على مزية رحمته، وسيختبرها أبناء أبنائهم أيضًا (عَلَى بَنِي الْبَنِينَ).
· “لا تتكيف محبة الله مع تكييفاتنا ولا تتغير مع تغيراتنا. فهل تتقلب محبة الأم مع تقلُّب أمزجة طفلها المريض؟” ماير (Meyer)
· “لم يكن هنالك وقت لم يحبك فيه الله. فرحمته هي من الأزل. ولن يكون هنالك وقت سيحبك الله فيه أقل، فرحمة الله هي إلى الأبد.” ماير (Meyer)
٣. لِحَافِظِي عَهْدِهِ: تعطى هذه الوعود بالمحبة والرحمة الأبدية بشروط. إذ تُقطع هذه الوعود للذين يخافونه، ويحفظون عهده، ويعملون بوصاياه.
ب) الآية (١٩): المقابلة بين الرب وكل الخليقة.
١٩الرَّبُّ فِي السَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ، وَمَمْلَكَتُهُ عَلَى الْكُلِّ تَسُودُ.
١. الرَّبُّ فِي السَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ: احتفل داود بحكم الله الآمن من السماء. فالله متوَّج فِي السَّمَاوَاتِ وراء كل متاعب الأرض وفسادها. كرسيه مثبت ولن يتزعزع أبدًا.
٢. وَمَمْلَكَتُهُ عَلَى الْكُلِّ تَسُودُ: هنالك مقابلة بين الله الحاكم والمحكوم. ولا يوجد أي جانب من الكون غير واقع تحت حُكمه.
· “عندما كان ميلانكثون (Melancthon) قلقًا حول أمور الكنيسة في أيامه، كان بمقدوره أن ينصح بهذه الكلمات: ’لا يجعل فيليب نفسه واليًا على العالم بعد.‘ سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كلاركسون (Clarkson)
ج) الآيات (٢٠-٢٢): المقابلة بين الله وملائكته.
٢٠بَارِكُوا الرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ. ٢١بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ، خُدَّامَهُ الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ. ٢٢بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ، فِي كُلِّ مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ. بَارِكِي يَا نَفْسِيَ الرَّبَّ.
١. بَارِكُوا الرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ: بدأ داود مزموره مطالبًا نفسه بأن تبارك الرب. لكنه عرف أن موضوع تسبيح الله وإكرامه ينبغي أن يتجاوز ما يعطيه الله. إذ ينبغي أن يمتد إلى الملائكة. فطلب منهم داود بجسارة أن يباركوا الرب.
٢. يَا مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ: الملائكة مقتدرون في القوة ومطيعون، لكن ينبغي أن يشتركوا في مباركة الرب بأن يعطوه التسبيح والإكرام اللائقين به.
٣. بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ: تمثل الملائكة جنود الله أيضًا. فهم يشكلون الجيش السماوي الذي هو تحت أمر ذاك الذي يفعل مسرّته. وينبغي لهم بصفتهم جنود الرب أن يعطوه التسبيح والإكرام اللائقين به.
٤. بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ: يقدم داود الدعوة إلى إكرام الله وتسبيحه إلى من هم أبعد من الملائكة – جَمِيع أَعْمَالِهِ، فِي كُلِّ مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ.
· يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ: “ليست هذه ترنيمة فردية. فالخليقة كلها تترنم – أو سترنم – معه. لكن لصوته، مثل أي صوت آخر، دور يضيفه، وله مزية (الآية ٢ فصاعدًا) لكي يحتفل، وله إمكانية الوصول (انظر مزمور ٥: ٣) إلى أُذن الله الصاغية.” كيدنر (Kidner)
· “الإنسان صغير جدًّا، لكن عندما توضع في يديه مفاتيح أعظم أرغن في الكون، فإنه يوقظ الكون كله برعود العبادة. والإنسان المفدي هو صوت الطبيعة، والكاهن في هيكل الخليقة، وقائد جوقة العبادة في الكون.” سبيرجن (Spurgeon)
· “يندمج ضمير المتكلم المفرد في ضمير المتكلم الجمع هنا، وبالتالي يتوَّج هذا كله بالوعي الشمولي.” مورجان (Morgan)