تفسير سفر المزامير – مزمور ١٤٢
ملجئي الوحيد
هذا المزمور معنون قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ لَمَّا كَانَ فِي ٱلْمَغَارَةِ. صَلَاةٌ.
يفضّل أن تترجم كلمة Maskil (المترجمة إلى ’قصيدة‘ بالعربية و’تأمُّل‘ بالإنجليزية) إلى تعليم أو إرشاد. “بسبب الدروس التي تعلَّمها داود في الكهف، وعلى ركبتيه. ولهذا تَعَلَّم أن يرغب في تعليم آخرين.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ماثيو هنري (Matthew Henry)
يرجح أن الكهف المقصود هنا هو كهف عدلّام المذكور في ١ صموئيل ٢٢: ١، رغم أن كهوف عين جدي (١ صموئيل ٢٤: ١ احتمال آخر. ويبدو أن عدلّام أكثر ترجيحًا، ما يوحي بأن المزمورين ٥٧ و ٣٤ أيضًا مرتبطان بنفس الفترة من حياة داود.
“هنالك نغمتان تسيران جنبًا إلى جنب على مدى هذه الترنيمة. الأولى هي الإحساس الفظيع بالعجز وفقدان الأمل في ما يتعلق بالإنسان. والثانية هي التوجُّه الحازم للنفس العاجزة إلى اللجوء إلى الرب.” مورجان (Morgan)
أولًا. التمهيد لصلاة داود
أ ) الآية (١): صرخة داود إلى الرب.
١بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَتَضَرَّعُ.
١. بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَصْرُخُ: كان هذا أكثر من مجرد التماس إلى العون من الله. إذ كان أيضًا إعلانًا بولائه للرب، إله إسرائيل. إذ عرف داود عن الآلهة الوثنية التي عبدتها الشعوب المحيطة بإسرائيل، لكنه صمّم على أن لا يصرخ إليها على الإطلاق، بل إلى الرب وحده.
· “لقد فعل الضيق والافتقار إلى التعاطف البشري فِعْلهما في داود، حيث دفعاه إلى صدر الرب. فقد صرخ إلى الإنسان عبثًا، وهو الآن يجمع نفسه في تصميم راسخ على أن يلقي بنفسه على الرب.” ماكلارين (Maclaren)
· “تصلح الكهوف مخادع جيدة للصلاة. إذ تساعد كآبتها وعزلتها على التأمل العبادي. ولو أن داود صلّى في قصره كما صلى في كهفه، ربما لم يسقط في العمل الذي جلب له مثل هذه التعاسة في أيامه اللاحقة.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ: عرف داود، بصفته رجلًا يتمتع بخبرة روحية عميقة، أنه توجد طرق كثيرة للصراخ إلى الرب – في الفكر، في الشعور، في العمل. وهنا صرخ داود إلى الرب بصوته، مدركًا أن المشاعر الصامتة لم تكن كافية لاحتياجه الحالي.
· “عرف داود، شأنه شأن بَارْتِيمَاوُس في الأناجيل، قيمة رفض العودة إلى الصمت. فهنالك يكمن اليأس.” كيدنر (Kidner)
· “كانت حالة داود في كهف عدلام حالة يأس مُطْبِق. فقد اضطُهِد من مواطنيه، وطُرد من أخيش، ولم يلتحق بعد إلى جماعته. فلجأ إلى الكهف، وكان هناك وحيدًا.” هورن (Horne)
ب) الآية (٢): شكوى داود إلى الرب.
٢أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِيْ قُدَّامَهُ أُخْبِرُ.
١. أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ: كانت لدى داود شكوى ليقدمها إلى الله. ومع تطوّر هذا المزمور، يطلب المرنم عونًا من الله في وجه أعدائه الذين كانوا يخططون إلى إيقاعهم في فخّهم. ولهذا، فإن من المرجح أن هذه الشكوى هي ضد أعدائه. ومهما كان مصدر الشكوى، فقد فعل داود الصواب بشكواه، حيث قدّمها أمام الرب.
· “لا تدل كلمة ’شكوى‘ على طبع سيئ أو نكِد كما توحي في الإنجليزية. لكن يمكن ترجمتها إلى ’أفكاري المضطربة.‘” كيدنر (Kidner)
· “لا يُقصَد بالشكوى إخبار الرب بما لا يعلمه، لكنها راحة للمشتكي، لا لإعلام الرب.” ماكلارين (Maclaren)
· أَسْكُبُ: “تعلّمنا هذه الكلمة أنه في الصلاة لا ينبغي أن نحتفظ بشيء في داخلنا ونمسكه عن الرب. بل ينبغي أن نظهر كل ما في قلوبنا. فحضور الله هو مخدعنا، حيث يُغلق الباب أمام الناس لا أمام الرب.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن نيل ولتلديل (Neale and Littledale)
٢. بِضِيقِيْ قُدَّامَهُ أُخْبِرُ: كان لدى داود القلب الذي عبّر عنه الرسول بولس لاحقًا في رسالة فيلبي ٤: ٦ ’لَا تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِٱلصَّلَاةِ وَٱلدُّعَاءِ مَعَ ٱلشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى ٱللهِ.‘
· “لم تكن لدى داود موارد، أو أتباع، أو مكان يلجأ إليه… لقد ذهب إلى جت، المدينة الفلسطية، لكن ثبت أن هذا كان قرارًا خطِرًا وغير عملي. وفي نهاية المطاف، هرب إلى البرية مرة أخرى واختبأ في كهف عدلّام.” بويس (Boice)
· “ليست هذه مجرد كلمات ينبغي لك أن تلفظها. إذ عليك أن تضع كل ضيقك أمام الرب. فكما يخبر الطفل أمه بأحزانه، أخبر الرب بكل أحزانك، وشكاواك، وتعاستك، ومخاوفك. أخرجها كلها من صدرك، وستغمر راحة عظيمة روحك.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. صلاة داود
أ ) الآيات (٣-٤): رعاية الله للقديس المتوحّد.
٣عِنْدمَا أَعْيَتْ رُوحِي فِيَّ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ مَسْلَكِي. فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي أَسْلُكُ أَخْفَوْا لِي فَخًّا. ٤ٱنْظُرْ إِلَى ٱلْيَمِينِ وَأَبْصِرْ، فَلَيْسَ لِي عَارِفٌ. بَادَ عَنِّي ٱلْمَنَاصُ. لَيْسَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِي.
١. عِنْدمَا أَعْيَتْ رُوحِي (انسحقتْ نفسي) فِيَّ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ مَسْلَكِي: كلما أعيت روح داود فيه، وجد ثقة في معرفة أن الله عرف رحلته وطريقه ومسلكه. ويعرف الرب كل مسالكنا بكل خيرها وسوئها.
· أَعْيَتْ رُوحِي فِيَّ: “كان داود بطلًا، غير أن روحه غرقت. كان بإمكانه أن يطرح عملاقًا أرضًا، لكنه لم يستطع أن يتمالك نفسه. لم يعرف طريقه، ولم يحس بأنه قادر على حمل عبئه.” سبيرجن (Spurgeon)
· عَرَفْتَ مَسْلَكِي: “إنه أمر مُعَزٍّ بلا حد أن ننظر إلى وجه الآب ونقول: قبل أو أولد أو أن آخذ خطواتي الأولى في هذا الطريق، أو حاولتُ أن أتصدى لتقلّباته المتنوعة، عرفتَني. ولا بد أنك عرفت أن هذا لم يكن أمرًا صعبًا، وأنه كانت هنالك موارد قوة في نفسك كافية ليومي، حيث تُخرجها حالات الطوارئ في إظهار أوضح.” ميير (Meyer)
٢. أَخْفَوْا لِي فَخًّا: لم يعرف داود مكان الفخاخ، لكنه عرف أنها موجودة في مكان ما. وعرف أيضًا أنه مع اعتماده على الله، فإنه سيحفظه من الفخاخ السرية.
· “استخدام الفخاخ المخفية أمر مخزٍ لأعدائنا، لكنهم لا يأبهون بهذا الأمر. وهم يحتاجون إلى أية حيل رخيصة في ممارسة خُبثهم وشرّهم، ولهذا لا يلجؤون إلى الهجوم علانية، بل يستخدمون الأشراك سرًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. فَلَيْسَ لِي عَارِفٌ. بَادَ عَنِّي ٱلْمَنَاصُ. لَيْسَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِي: أحس داود بأنه وحيد ومتخلّىً عنه. ومع هذا، تعلن هذه الصرخة إلى الله أن داود عرف أنه حتى لو أن البشر تخلّوا عنه، فإن الله لم يتخلَّ عنه. وحتى لو فشل كل ملجأ آخر، وجد داود في الله أذنًا لصوت صراخه.
· ٱنْظُرْ إِلَى ٱلْيَمِينِ (يميني) وَأَبْصِرْ: “اليمين هي مكان لبطل أو لمساعد، لكن هذا الشخص المتألم المتوحد بلا حراسة، ولا يوجد من يعرفه، بمعنى الإقرار بأنه شخص محتاج إلى عون.” ماكلارين (Maclaren)
· “تدل كلمة ’اليمين‘ على المكان الذي يقف فيه الشاهد أو المجمع القانوني (انظر مزمور ١٦: ٨؛ ١٠٩: ٣١؛ ١١٠: ٥؛ ١٢١: ٥). ليس لديه من يدافع عنه ضد الأعداء.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “لدينا رفقاء في الفرح. لكن علينا أن نواجه الحزن وحدنا. وما لم يكن يسوع معنا في الظلمة، فإنه ليس معنا أحد على الإطلاق.” ماكلارين (Maclaren)
· “في هذا الحدث، يبدو أن الله استجاب بوفرة، حيث سرعان ما أرسل إخوة داود وكل بيت أبيه للانضمام إليه في الكهف، ثم بدرجات مجموعة ستصبح نواة مملكته (١ صموئيل ٢٢: ١ فصاعدًا). وقد أثبت هذا الانحسار في ما يمتلكه نقطة تحوّل.” كيدنر (Kidner)
· لَيْسَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِي: “عندما يحاصرنا الخطر، ويلفّنا الخوف من كل جانب، دعنا نتبع مثال داود، ومثال ذاك الذي أعظم من داود، الذي تآمر عليه اليهود والأمم، وتُرِك وحيدًا في البستان وعلى الصليب، فكرّس نفسه للصلاة.” هورن (Horne)
ب) الآية (٥): ثقة داود بالله وحده.
٥صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ. قُلْتُ: «أَنْتَ مَلْجَإِي، نَصِيبِي فِي أَرْضِ ٱلْأَحْيَاءِ.
١. أَنْتَ مَلْجَإِي: لم يكن لداود ملجأ بين البشر (الآية ٤). لكن عندما صرخ إلى الله، استطاع أن يعلن بثقة أن الله هو ملجؤه حقًّا. كانت مدن الملجأ في العهد القديم من أجل حماية أي إسرائيلي في ظروف خاصة. ووجد داود في ظرفه الخاص أن الرب نفسه هو ملجؤه.
· قُلْتً: “لو لم يصرخ داود لما قال. ولو لم يكن الرب نصيبه، لما كان نصيبه وميراثه. الخطوة التي هي أدنى ضرورية مثل تلك التي هي أعلى.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. نَصِيبِي فِي أَرْضِ ٱلْأَحْيَاءِ: كان لدى داود في أوقات كثيرة بينما كان طريدًا سبب للاعتقاد أن نصيبه وميراثه في هذا العالم قد تلاشى. وفي مثل تلك الأوقات، كانت لديه الثقة بأن الرب هو نصيبه وميراثه. وعرف أنه سيستفيد من هذا النصيب في أرض الأحياء، هنا والآن، لا في الدهر التالي فقط.
· نصيبي: “يبيّن هذا القول إن الرب نصيبه أن المحبة لدى داود تجاوزت الخوف. وتُظهر ترجمة الكتاب المقدس للأخبار السارة قوة هذه الكلمة بترجمتها إلى ’أنت كل ما أريد.‘” كيدنر (Kidner)
ج) الآيات (٦-٧): صلاة داود من أجل الإنقاذ.
٦اصْغِ إِلَى صُرَاخِي، لِأَنِّي قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدًّا. نَجِّنِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ، لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنِّي. ٧أَخْرِجْ مِنَ ٱلْحَبْسِ نَفْسِي، لِتَحْمِيدِ ٱسْمِكَ. ٱلصِّدِّيقُونَ يَكْتَنِفُونَنِي، لِأَنَّكَ تُحْسِنُ إِلَيَّ.
١. اصْغِ إِلَى صُرَاخِي، لِأَنِّي قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدًّا: جلب داود إلى الرب صراخه مرة أخرى، معترفًا بصدق بظروفه المُذلة. لم يحس بالحاجة إلى التظاهر بأن كل شيء على ما يرام أو أنه ليس ضعيفًا. فكان بإمكانه أن يأتي إلى الله طالبًا العون عندما أذلّه مضطهِدوه الذين كانوا أقوى منه.
· “تنتهي الترنيمة بصرخة من أجل الإنقاذ، وبتثبيت للثقة بأن الصرخة ستُسمع وستُستجاب.” مورجان (Morgan)
٢. لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنِّي: يعني هذا أن داود فهم جيدًا ضعفه الحالي. لقد أحس ذاك الذي قتل جوليات بأنه ضعيف جدًا. وفي واقع الأمر، كان هذا مكانًا جيدًا ليكون فيه. إذ ستغمر قوة الله حياته عن قريب.
· “أنت تسمع دائمًا عن مصارعة يعقوب. حسنًا، أنا أجرؤ على القول إنه فعل ذلك، لكن يعقوب لم يكن المصارع الرئيسي. كانت تهدف المصارعة إلى إفراغ كل قوته منه. وعندما فرغت قوته منه بالفعل، سمّاه الله رئيسًا (أميرًا). والآن كان مقدَّرًا لداود أن يصبح ملكًا على إسرائيل كلها. فما هي الطريق إلى أورشليم؟ ما هي الطريق إلى العرش؟ إنها من خلال كهف عدلام.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. أَخْرِجْ مِنَ ٱلْحَبْسِ نَفْسِي: يرجح أن هذه صورة مجازية، غير أن داود أحس بأنه محصور ومقيّد في نفسه. وتاق إلى أن يتحرر من هذا الإحساس ليتمكن من تسبيح اسم الرب.
· “كلمة ’نَفْسِي‘ طريقة أطول للقول ’أنا‘ (عن نفسي = عنّي).” كيدنر (Kidner)
· “قد تدل كلمة ٱلْحَبْسِ على سجن فعلي، لكن يمكن أن تكون أيضًا صورة مجازية تشير إلى حالة يائسة في ضوء التلميحات إلى الشدائد والعزلة (انظر مزمور ١٠٧: ١٠؛ إشعياء ٤٢: ٧.)” فانجيميرين (VanGemeren)
٤. لِتَحْمِيدِ ٱسْمِكَ: رغم أن هذه الصرخة جاءت من إحساس عظيم بالمذلة والضعف، إلا أن داود أنهى مزموره بثقة عظيمة.
· بدأ داود الترنيمة بشكوى (الآية ٢)، وهو يختمها بالثقة بالتسبيح القادم.
· بدأ داود الترنيمة بإحساس عظيم من العزلة (الآية ٤)، وهو يختمها بثقة الصحبة المستقبلة من الأبرار والدعم القادم.
· بدأ داود بالإحساس بالمذلة والضعف (الآية ٦)، وختم بصلاح الله للمستقبل، عالمًا أن الله سيتعامل معه بسخاء (لِأَنَّكَ تُحْسِنُ إِلَيَّ).