تفسير سفر المزامير – مزمور ١٤٦
تسبيح للرب المستحق ثقتنا
يبدأ المزمور ١٤٦ سلسلة من خمس ترانيم أخيرة في سفر المزامير، وهذه الترانيم الخمس معروفة باسم ترانيم الهلّلويا. “درسنا في المزامير السابقة أحزان الكُتّاب، وخزيهم، وخطاياهم، وشكوكهم، ومخاوفهم. ورأينا شعب الله في هزائمهم وانتصاراتهم، وفي تقلُّباتهم في الحياة. وشاهدنا كلمات متمردة وإيمانًا يواجه صعوبات. لكن هذا كله وراءنا الآن. ففي المزامير الأخيرة هذه، نجد أن كل كلمة تسبيح.” بويس (Boice)
أولًا. سعادة الثقة بالرب
أ ) الآيات (١-٢): إعلان تسبيح الرب.
١هَلِّلُويَا. سَبِّحِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ. ٢أُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ فِي حَيَاتِي، وَأُرَنِّمُ لِإِلَهِي مَا دُمْتُ مَوْجُودًا.
١. هَلِّلُويَا: عنى صاحب المزمور بكلمة ’هللويا‘ إعلانًا لتسبيحه للرب، وحضًّا على مثل هذا التسبيح. فقد ناشد نفسه أن تسبّح الرب، إضافة إلى مناشدة الآخرين أن يفعلوا الأمر نفسه.
· كلمة ’هلّلويا‘ مركّبة من كلمتين عبريتين هما ’هَلِّلْ‘ Hallel و’ياه‘ Jah وهي اختصار لكلمة يهوه Jehova وهكذا، تعني كلمة هلّلويا ’سبِّحوا الرب.‘” بويس (Boice)
٢. أُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ فِي حَيَاتِي: يشبه هذا إلى حد كبير ما تقوله مزمور ١٠٤: ٣٣، يعلن صاحب المزمور تصميمه على تسبيح الرب بكل كيانه وحياته.
· “ما إنْ تنتهي كلمة “هللويا” حتى تبدأ “هللويا” أخرى.” هورن (Horne)
· وَأُرَنِّمُ لِإِلَهِي مَا دُمْتُ مَوْجُودًا: “… أي في استمراري، في تقدُّمي، في وجودي الأبدي. هذا معبِّر جدًّا.” كلارك (Clarke)
· “ينبغي أن نكون حازمين قدر الإمكان في عزمنا المقدس على تسبيح الله، لأن هذه هي غاية حياتنا وكينونتنا… أن نمجد الله وأن نتمتع به إلى الأبد.” سبيرجن (Spurgeon)
· “عندما طُلب من جورج كاربنتر (George Carpenter)، الشهيد البافاري، من بعض الإخوة الأتقياء وهو يحرق بالنار، أن يقدم لهم علامة على ثباته، أجاب: ’لتكن هذه علامة أكيدة لكم أني طالما أني قادر على فتح فمي، أو على الهمس، فإني لن أتوقف أبدًا عن تسبيح إلهي وأجاهر بحقه.‘ وهو الأمر الذي قاله وفعله إلهي، وفعله شهداء كثيرون.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٣-٤): تحذير من الثقة بالإنسان.
٣لَا تَتَّكِلُوا عَلَى ٱلرُّؤَسَاءِ، وَلَا عَلَى ٱبْنِ آدَمَ حَيْثُ لَا خَلَاصَ عِنْدَهُ. ٤تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ. فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ نَفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ.
١. لَا تَتَّكِلُوا عَلَى ٱلرُّؤَسَاءِ: الرب موضوع التسبيح، والإنسان موضوع الشك. فحتى أعلى الرجال – الرؤساء – لا يستحقون ثقتنا. ومن المؤكد أن أملنا سيخيب عندما نضع ثقتنا في شخص لَا خَلَاصَ (عون) عِنْدَهُ.
· لَا تَتَّكِلُوا عَلَى ٱلرُّؤَسَاءِ: “… على الرجال الأكثر ثروة وقوة، الذين يميل كثيرون إلى كسب رضاهم.” بوله (Poole)
· “ربما يبدو أن كلمة ’الرؤساء‘ (الأمراء) تزيل هذه النصيحة على مستوى الأشخاص العاديين واحتياجاتهم. لكن الكلمة الحديثة لهذه الكلمة هو ’المؤثرون‘ الذين يبدو أن دعمهم أكثر صلابة وعملية من دعم الله.” كيدنر (Kidner)
· حَيْثُ لَا خَلَاصَ عِنْدَهُ: “مهما ارتفعت منزلته، فما هو إلا ’ابن آدم‘ (مولود الأرض)، وهو يرث الأرض وقابلية الزوال اللذين يجرّدانه من القدرة على العون، حَيْثُ لَا خَلَاصَ عِنْدَهُ (مزمور ١٤٦: ٣).” ماكلارين (Maclaren)
٢. تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ: أعظم الرجال مجرد رجال، وهم خاضعون للرجوع إلى التراب. هم من تراب ومآلُهم هو تراب. وستهلك حتى أكثر خططهم عبقرية – فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ نَفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ. هذه أسباب تدفعنا إلى أن نضع ثقتنا في الله، لا في الإنسان.
· يمكن أن تُفهم كلمة ’روح‘ أيضًا على أنها نفَس. “رغم أن الإنسان يقف شامخًا، إلاّ أن الافتقار إلى شيء من الهواء يطرحه أرضًا، ويضعه تحتها.” (سبيرجن) (Spurgeon)
· “توضح الآيتان ٣ و ٤ هذه النقاط باللعب على كلمتين عبريتين. فكلمة آدم Adam التي تعني ’إنسان‘ هي نفس الكلمة التي تدل على الأرض (التراب). ولهذا، فإن التراب يعود إلى التراب.” بويس (Boice)
· “غالبًا ما يريد الرؤساء الأرضيون – إذا كانت لديهم الإرادة – السلطة والنفوذ لحماية أصدقائهم. وإذا افتقروا إلى الإرادة والسلطة لتعزيزهم، فإن هذا مرتبط بالنفَس الموجود في أنوفهم.” هورن (Horne)
· تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ: “حالما يموت، تهلك أفكاره، وكل تصميماته، ومساعيه، سواء أكانت لنفسه أم لآخرين.” بوله (Poole)
· “هذه هي حالة الإنسان الضيّقة… نفَسه، وترابه، وأفكاره. هذه هي الذروة الثلاثية – يخرج نفَسه، ويعود إلى الأرض، وتهلك أفكاره. فهل هذا كائن يمكن الاعتماد عليه؟ باطل الأباطيل. الكل باطل. وسيكون الثقة به باطلًا أكبر.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٥-٧): الثقة السعيدة بإله عظيم.
٥طُوبَى لِمَنْ إِلَهُ يَعْقُوبَ مُعِينُهُ، وَرَجَاؤُهُ عَلَى ٱلرَّبِّ إِلَهِهِ، ٦ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ، ٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا. ٱلْحَافِظِ ٱلْأَمَانَةَ إِلَى ٱلْأَبَدِ. ٧ٱلْمُجْرِي حُكْمًا لِلْمَظْلُومِينَ، ٱلْمُعْطِي خُبْزًا لِلْجِيَاعِ. ٱلرَّبُّ يُطْلِقُ ٱلْأَسْرَى.
١. طُوبَى لِمَنْ إِلَهُ يَعْقُوبَ مُعِينُهُ: غالبًا ما يفشل الرؤساء، لكن الله لا يخيب رجاء من يضع رجاءه فيه.
· انتقل صاحب المزمور فجأة مما هو سلبي إلى ما هو إيجابي. “سيكون تعليمه السلبي – لو جاء وحده – إنجيل يأس، واختزالًا للحياة في خداع معذِّب. لكن عندما يؤخذ كمقدمة للإعلان عن ذاك الذي مِن الأمان أن نثق به، فلن يكون هنالك أي شيء حزين فيه.” ماكلارين (Maclaren)
· “لدينا هنا بيان جربناه وأثبتنا صحته، وهو الراحة في الرب. نحن نختبر سعادة تتجاوز الوصف، والمقارنة، والإدراك.” سبيرجن (Spurgeon)
· وَرَجَاؤُهُ عَلَى ٱلرَّبِّ إِلَهِهِ: “لا نستطيع أن نسبّح الله بشكل جيد إلا عندما نمارس إيماننا به! فالثقة الهادئة هي من بين أعذب أنواع الموسيقى التي تصل إلى القلب. وعندما نثق بالإنسان، فإننا نسلب الله مجده. فنحن نعطي الآخرين الثقة التي تخص الله وحده.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ: يعطينا صاحب المزمور مزيدًا من الأسباب للثقة بالله. فعندما نثق بالرب بصفته خالق كل الأشياء، فإننا ندرك أنه يمتلك القوة على مساعدتنا وإنقاذنا من أشخاص أقوياء أو عظماء، وهي قوة لا نمتلكها.
· “لا يقدّم صاحب المزمور أي جديد في وصفه لأعمال الرب القوية، لكن الأسلوب الذي يجمع به الطرق المختلفة التي يعيل بها الله مخلوقاته خلاق جدًّا، بما في ذلك الخاتمة.” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. ٱلْحَافِظِ ٱلْأَمَانَةَ إِلَى ٱلْأَبَدِ: يمكننا أن نثق بالله أيضًا لأنه إله أخلاقي مستقيم. فالرب أمين مخْلص بلا تغيير. فهو يناصر المقموعين (ٱلْمُجْرِي حُكْمًا لِلْمَظْلُومِينَ). ورغم كل القدرة الخلاقة هذه، إلا أنه ليس طاغية، أو من دون تعاطف مع الحق والعدل.
· ٱلْحَافِظِ ٱلْأَمَانَةَ إِلَى ٱلْأَبَدِ: “تأتي ’إلى الأبد‘ في مقابلة مع أخلاقيات رؤساء الأرض وقابليتهم للتغير. (مزمور ١٤٦: ٤).” تراب (Trapp)
· “إنه أمين لطبيعته الخاصة، وأمين للعلاقات التي ألزم نفسه بها، وأمين لعهده، وأمين لكلمته، وأمين لابنه. وهو يبقى أمينًا. وهو الحافظ على كل ما هو أمين.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. ٱلْمُعْطِي خُبْزًا لِلْجِيَاعِ: يهتم الرب بالمحتاجين. إذ يعطي خُبْزًا لِلْجِيَاعِ، ويطلق الأسرى. وفي كل هذا نرى إله قوة وقداسة ومحبة. وهذا إله يمكن الاتكال عليه بثقة.
· ٱلْمُعْطِي خُبْزًا لِلْجِيَاعِ: “يمكن أن تتحول قلوب البشر العطشى الملآى بالاحتياجات والحنين إلى هذا الرب القدير الأمين البار، وتتأكد من أنه لا يرسل أفواهًا أبدًا من دون أن يرسل لحمًا ليملأها. إن كل أنواع الجوع أبواب يدخل الله من خلالها أرواحنا.” ماكلارين (Maclaren)
· “وهكذا تكمل البركة الثلاثية – العدل والطعام والحرية.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. عون الله القدوس
أ ) الآيات (٨-٩): إعلان قوة الله ورعايته المُحِبة.
٨ٱلرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ ٱلْعُمْيِ. ٱلرَّبُّ يُقَوِّمُ ٱلْمُنْحَنِينَ. ٱلرَّبُّ يُحِبُّ ٱلصِّدِّيقِينَ. ٩ٱلرَّبُّ يَحْفَظُ ٱلْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ ٱلْيَتِيمَ وَٱلْأَرْمَلَةَ، أَمَّا طَرِيقُ ٱلْأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ.
١. ٱلرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ ٱلْعُمْيِ: يواصل صاحب المزمور وصفه الرائع للرب كإله القوة والرعاية والعدل والرأفة. ويبدو أنه ملتذ بوصف يهوه في أعمال محبته العظيمة وقوته.
· “يُقصد بهذه الفئات من الأشخاص المبتلين جميعًا أن تكون حرفية. لكن يمكن أن تحمل معاني أوسع، ويُقصد بها أن تلمّح إلى عبودية وعمى واعوجاج في أبعاد روحية.” ماكلارين (Maclaren)
· نربط هذه القائمة فورًا بعمل يسوع المسيّا:
ü فتح يسوع عيون العُمي (متى ٩: ٢٧-٢٩).
ü أقام يسوع المرأة المنحنية (لوقا ١٣: ١١-١٣).
ü أحب يسوع الأبرار (متى ١٣: ٤٣، ٢٥: ٤٦).
ü سهر يسوع على الغرباء (متى ٨: ٥-١٠).
ü بارك يسوع اليتيم والأرملة (لوقا ٧: ١٢-١٥).
ü عوّج يسوع طريق الأشرار… رأسًا على عقِب (متى ٢١: ١٢)
ü الاستنتاج المنطقي هو أن يسوع هو الرب (يهوه).
· “الابن صورة أبيه. قد تجلب هذه السطور إلى أذهاننا إعلان إشعياء ٦١، حيث أعلن يسوع مهمته، إضافة إلى مزيد من القرائن حول هويته التي أرسلها إلى يوحنا المعمدان (لوقا ٤: ١٨ فصاعدًا: ٧: ٢١ فصاعدًا).” كيدنر (Kidner)
٢. أَمَّا طَرِيقُ ٱلْأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ: يُظهر الله محبة ورأفة عظيمين للمساكين والمبتلين والمحتاجين. لكنه يطبق العدالة على ٱلْأَشْرَارِ ويقلب طريقهم رأسًا على عقب (فَيُعَوِّجُهُ).
· فَيُعَوِّجُهُ: “يُتَوِّههم في طريقهم، وهو لا يحبط مؤامراتهم ومشروعاتهم فحسب، بل يجعلهم ينقلبون على أنفسهم أيضًا.” بوله (Poole)
· “يتم التعامل مع هذا الجانب من الإرادة الإلهية بخفة في عبارة، كما يليق بغرض المزمور. لكن لا يمكن استبعاده. إذ لا بد أن يكون للشبه الحقيقي ظلال. فليس الله إلهًا يمكن أن يُعتمد عليه ما لم يمل في اتجاهه إلى سحق الشر وإفشال تصاميم الخطاة.” ماكلارين (Maclaren)
ب) الآية (١٠): تسبيح الإله الذي يملك إلى الأبد.
١٠يَمْلِكُ ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلْأَبَدِ، إِلَهُكِ يَا صِهْيَوْنُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. هَلِّلُويَا.
١. يَمْلِكُ ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلْأَبَدِ: كان صاحب المزمور سعيدًا بإطلاق هذا الإعلان، لأنه تم التعبير عن قوة الله وقدرته بمثل هذه المحبة والرأفة. ومن خلال القدرة والحق، سيحكم ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلْأَبَدِ، إلى كل الأجيال – إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ.
· يَمْلِكُ ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلْأَبَدِ: “ولهذا لا يمكن أن يفشل أبدًا. وهو إلهك، يا صهيون. فقد ساعدك وساعد آباءك حتى هذه اللحظة. وقد قدم العون من جيل إلى جيل. ولهذا اتكلي عليه، وباركي الرب.” (كلارك) (Clarke)
· “مهما كانت الفكرة باعثة على التواضع، وبغضّ النظر عن فحص القلب الذي تدفعنا إليه، فإن من المؤكد أنه إذا فترتْ هتافات ’أوصّنّا‘ على ألسنتنا وخمد تفانينا ومحبتنا الشديدة، فإن السبب يعود إلى أننا فقدنا رؤيتنا الواضحة لله ووعينا الحاد بطبيعته. فأن تعرفه يعني أن تسبّحه، وأن تسبّحه بلا توقف.” مورجان (Morgan)
٢. هَلِّلُويَا: ينتهي المزمور ١٤٦ كم بدأ، بإعلان تسبيح الرب، بإعلان هَلِّلُويَا.
· “هنا ينتهي هذا المزمور السعيد. ولا ينتهي تسبيح الرب هنا. فهو سيصعد إلى أبد الآبدين.” سبيرجن (Spurgeon)