تفسير سفر المزامير – مزمور ١٥
المعدن الأخلاقي لذاك الذي يقبله الله
عنوان هذا الموضوع ببساطة هو “مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ.” وهو يتأمّل فيه المعدن الأخلاقي للرجل الذي يُستقبَل في محضر الله. وليست لدينا معرفة دقيقة حول مناسبة كتابة هذا المزمور، لكن ربما كانت المناسبة هي إدخال تابوت العهد إلى أورشليم (سفر صموئيل الثاني ٦). وقد انشغل داود كثيرًا بالأسئلة التي طرحت والإجابات عنها في هذا المزمور.
أولًا. السؤال المطروح: من يستطيع أن يأتي أمام الله؟
أ ) الآية (١أ): من يستطيع أن يأتي إلى خيمة الاجتماع (مَسْكَنِ الله)؟
١يَا رَبُّ، مَنْ يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ؟
١. يَا رَبُّ، مَنْ يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ؟: سؤال داود بمعنى ما مجازي. فمع أنه ربما رغب، شأنه شأن أبناء قورح، في أن يسكن في بيت الله مزمور ٢:٨٤-٤؛ ١٠:٨٤)، إلاّ أن هذا كان مستحيلًا له لأنه لم يكن كاهنًا.
· يفضَّل أن ننظر إلى كلمة “يَنْزِلُ” هنا على أنها تشير إلى إقامة مؤقتة. فهي تصف زيارة وتَلَقّي ضيافة من مضيف ساكن في خيمة. وتُفهم هذه الافتتاحية في ضوء عادات الضيافة في الشرق الأدنى القديم.
· “في كرم الضيافة في العالم القديم، كان الضيف محميًا من كل أذى. كان مصونًا من كل انتهاك، وكانت رغباته مجابة. وهكذا، كان ضيف الرب في أمان، ويستطيع طلب اللجوء من كل عدو ويشترك في كل خيرات مسكنه الوفيرة.” ماكلارين (Maclaren)
٢. يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ: كان مَسْكِن الله خيمة الاجتماع العظيمة التي أمر الله موسى وإسرائيل بأن يبنوها له أثناء الخروج (سفر الخروج ٢٥-٣١). وقد صمدت الخيمة لعدة قرون، وفي زمن داود يبدو أنها كانت في جبعون (أخبار الأيام الأول ٣٩:١٦-٤٠).
· بما أن خيمة الاجتماع (المسكن) كانت المكان التي يلتقي فيها الإنسان الله من خلال عمل الكهنة وممارسة تقديم الذبائح، كان توق داود إلى أن يَنْزِلَ فِي مَسْكَنِهِ أي أن يقيم في حضرة (حضور) الله.
· يخطر ببال داود هنا الشخص الذي يحيا في حضور الله، والذي يسلك في شركة حميمة معه، لأن قلبه وفكره وحياته كلها متوافقة مع قلب الله وفكره وحياته.
ب) الآية (١ب): من يستطيع أن يأتي إلى جبل هيكل الله؟
١… مَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ؟
١. مَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ؟ بمعنى ما، يستخدم هنا داود الأسلوب العبري في التكرار في الشعر ليطرح نفس السؤال الذي طرحه في الجزء الأول من الآية.
· تحمل كلمة ’يَسْكُنُ‘ هنا دلالة أكثر ديمومة من كلمة ’يَنْزِلُ‘ في الشطر السابق. فكأن داود يقول: “من الذي يمكن أن يُقبَل كضيف في خيمة الله متمتّعًا بكل حماية الضيافة؟ من يمكن أن يحيا ’يَسْكُنُ‘ كمواطن في جَبَلِ قُدْسِكَ؟”
٢. جَبَلِ قُدْسِكَ: ولكن من ناحية أخرى، يطرح داود سؤالًا أكثر حدةً. ففي ذلك الوقت، كانت خيمة الاجتماغ في جبعون (أخبار الأيام الأول ٣٩:١٦؛ ٢٩:٢١). واعتمادًا على الوقت الذي كتب فيه داود مزموره، ربما كان تابوت العهد في أورشليم (صموئيل الثاني ١٧:٦)، وعلى نحو التحديد في جبل المُريّا، حيث سبق أن طلب الله من داود أن يبني الهيكل صموئيل الثاني ١٨:٢٤-٢١؛ أخبار الأيام الأول ٢٨:٢١–
٥:٢٢؛ أخبار الأيام الثاني ١:٣).
· بما أن خيمة الاجتماع لم تكن في جَبَلِ قُدْسِ الله في زمن داود (مع أن تابوت العهد كان موجودًا)، كان يخطر بذهن داود مكانان مختلفان لكن متشابهان.
ثانيًا. المعدن الأخلاقي لذاك الذي يمكن أن يأتي أمام الله
أ ) الآيات (٢-٣): معدنه الأخلاقي بين أصحابه وأقربائه.
٢السَّالِكُ بِالْكَمَالِ، وَالْعَامِلُ الْحَقَّ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِالصِّدْقِ فِي قَلْبِهِ. ٣الَّذِي لاَ يَشِي بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَصْنَعُ شَرًّا بِصَاحِبِهِ، وَلاَ يَحْمِلُ تَعْيِيرًا عَلَى قَرِيبِهِ.
١. ٱلسَّالِكُ بِٱلْكَمَالِ: في وصف داود للمعدن الأخلاقي للإنسان الذي يستطيع أن يسكن (يحيا) في حضور الله، يبدأ بوصفين عامّين (ٱلسَّالِكُ بِٱلْكَمَالِ، وَٱلْعَامِلُ ٱلْحَقَّ).
· بمعنى ما، يتحدث داود من منظور نظام العهد القديم. فمع أن نظام العهد القديم أعطى مكانًا مهمًّا للذبيحة والتكفير من خلال الدم، إلاّ أنه ارتكز أيضًا على البركة واللعنة بناءً على الطاعة والعصيان (سفر اللاويين ٢٦؛ سفر التثنية ٢٨). فلم يكن للعاصي أن يتوقع البركة، بما في ذلك بركة حضور الله.
· يعطينا نظام العهد الجديد أساسًا للبركة والعلاقة بالله، وهو عمل يسوع المسيح المكتمل على الصليب. والإيمان، لا الأداء، هو أساس البركة.
· غير أن مبدأ داود دقيقٌ تحت نظام العهد الجديد أيضًا. فسلوك المؤمن انعكاس لشركته مع الله. فكما كتب يوحنا: “إِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي ٱلظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ ٱلْحَقَّ” يوحنا الأولى ٦:١). ويمكننا القول إنه تحت نظام العهد الجديد، فإن السلوك البارّ هو نتيجة للشركة مع الله، على أساس الإيمان.
· “إن جواب المؤمن عن سؤال داود أعمق من ذلك بكثير، لكن يظل غير تام ما لم يشمل جواب داود ويضع نفس التوكيد على الواجبات تجاه الآخرين.” ماكلارين (Maclaren)
· “يستجيب داود للسؤال في الآية الأولى بأجوبة تمثيلية. ويعني هذا أن البنود المدرجة في الآيات ٢-٥ ليست كلها شاملة.” بويس (Boice). ونرى هذا أيضًا من نصوص مشابهة مثل مزمور ٣:٢٤-٤ وإشعياء ١٤:٣٣-١٧، وهي غير مطابقة للبنود المدرجة.
٢. وَٱلْمُتَكَلِّمُ بِٱلصِّدْقِ فِي قَلْبِهِ. ٱلَّذِي لَا يَشِي (يغتاب) بِلِسَانِهِ: فهِم داود أن الحياة المستقيمة البارة تُعْرَف بالكيفية التي يتكلم بها المرء. وكما قال يسوع في متى ٣٤:١٢ “مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ.”
· “أعتقد أن ضررًا أكبر أُلحِق بالكنيسة وعملها بالقيل والقال والانتقاد والافتراء من أية خطية مفردة أخرى. ولهذ أقول: لا ترتكبوا هذه الخطية. عُضَّ لسانك قبل أن تنتقد مؤمنًا آخر.” بويس (Boice)
· كتب كلارك (Clarke) حول كلمة ’يَشِي‘ (يغتاب) قائلًا: “إنه شخص وضيع هو الذي يسلبك سمعتك الطيبة. وهو جبان، لأنه يتكلم عنك في غيابك عن أشياء لا يجرؤ أن يتكلم عنها في حضورك. وهو يشبه الكلب غير المدرب الذي يثب ليعضك من الخلف حالما تستدير. هذه الأفكار الثلاثة كلها متضمنة في هذا التعبير، وهي كلها تلتقي في الشخص الذي ينتقص من الآخرين ويفتري عليهم. فلسانه لسان شخص وضيع وجبان والكلب.”
٣. وَلَا يَصْنَعُ شَرًّا بِصَاحِبِهِ، وَلَا يَحْمِلُ تَعْيِيرًا عَلَى قَرِيبِهِ: عرف داود أيضًا أن البر يُعبّر عنه بكيفية تعاملنا بعضنا مع بعض. ربما ظننا أن داود يمكن أن يعطي أولوية أكبر للالتزامات الدينية مثل الذبائح أو طقوس التطهير – وهي بالتأكيد لها مكانها، لكنها بلا فائدة من دون التقوى العملية لكون المرء صالحًا وصادقًا وذا كرامة أمام أقربائه وأصحابه.
· نحن نرى في كلمات داود أيضًا عمل يسوع المسيح الأعمق الذي أمرنا بأن لا نحب صاحبنا وقريبنا فحسب، بل أعداءنا أيضًا والذين يستغلوننا باحتقار (متى ٤٤:٥).
ب) الآيات (٤-٥أ): معدنه الأخلاقي بين الأشخاص الذي يصعب التعامل معهم
٤وَالرَّذِيلُ مُحْتَقَرٌ فِي عَيْنَيْهِ، وَيُكْرِمُ خَائِفِي الرَّبِّ. يَحْلِفُ لِلضَّرَرِ وَلاَ يُغَيِّرُ. ٥فِضَّتُهُ لاَ يُعْطِيهَا بِالرِّبَا، وَلاَ يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ عَلَى الْبَرِيءِ.
١. وَٱلرَّذِيلُ مُحْتَقَرٌ فِي عَيْنَيْهِ: عرف داود أننا لا نستطيع أن نحب الخير والصلاح ما لم نقاوم الشر أيضًا. فكما تقول الآية في سفر الأمثال ١٣:٨ “مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ بُغْضُ ٱلشَّرِّ.” غير أن هذا الرجل المتدين يُكْرِمُ خَائِفِي ٱلرَّبِّ. وهو يحكم على الناس على أساس تقي، لا على المحاباة أو التملّق أو الفساد.
· “أي الذي رفض الأشرار مهما كانوا أغنياء وذوي كرامة، واختار ذوي النيّات الحسنة، مهما كانوا فقراء ومحتقرين في العالم.” هورن (Horne)
· “هو لا يعجب بشخصه (الشرير)، ولا يحسد وضعه، ولا يغازله بالتملقات، ولا يثمّن صحبته ومحادثته، ولا يصادق على طرقه ولا يقلدها. بل ينظر إليه نظرة احتقار، ويرى أنه رجل بائس للغاية، وأنه موضوع للشفقة، وهو يمقت ممارساته الشريرة، وهو يعمل على جعل مثل تلك الطرق جديرة بالازدراء وبغيضة لكل الناس حسب قدرته.” بوله (Poole)
· وَيُكْرِمُ خَائِفِي ٱلرَّبِّ: يتوجب أن نكون أمناء في تقديم الاحترام لمن يستحق الإكرام نفس أمانتنا في دفع فواتيرنا. ونحن مديونون للأشخاص الصالحين بالإكرام، وليس لدينا أي حق في أن نسلّم ما هو حقٌّ لهم إلى أشخاص دنيئين يصدف أنهم في مناصب عالية.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. يَحْلِفُ لِلضَّرَرِ وَلَا يُغَيِّرُ: يعني هذا أن هذا الشخص يفي بوعوده حتى لو لم يكن في صالحه أن يقوم بذلك.
· “التزم يشوع والشيوخ بقسمهم للجبعونيين رغم أن هذا لم يكن مريحًا لهم.” تراب (Trapp)
· “حرّمت الشريعة إبدال ذبيحة حيوانية سبق النذر بتقديمها بأخرى (سفر اللاويين ١٠:٢٧). ويستخدم المزمور نفس الكلمة للإشارة إلى التبديل أو التغيير، في إشارة إلى ذلك التحريم، وهو أمر لا بدّ أن صاحب المزمور كان مطّلعًا عليه.” ماكلارين (Maclaren)
٣. فِضَّتُهُ لَا يُعْطِيهَا بِٱلرِّبَا، وَلَا يَأْخُذُ ٱلرِّشْوَةَ عَلَى ٱلْبَرِيءِ: يصف داود الرجل الذي يريد أن يحيا حياة بارة في ما يتعلق بالمال. وهنالك أشخاص كثيرون يُعَدّون أتقياء في نواحٍ أخرى لم يقرروا بعد أن يستخدموا مالهم بطريقة تكرم الله وتبيّن محبتهم للآخرين واهتمامهم بهم.
· الرِّبا: “أمر مدان في الكتاب المقدس، ليس بشكل عام (انظر سفر التثنية ٢٠:٢٣؛ إنجيل متى ٢٧:٢٥) لكن في سياق التجارة وانتهاز الفرصة من مصائب أخ، كما توضح المقارنة بين سفر التثنية ١٩:٢٣ وسفر اللاويين ٣٥:٢٥-٣٨.” (كيدنر) Kidner
· “أنا مقتنع بأن اهتمام هذه الآية ليس منصبًّا على الحصول على فائدة من المال المقترَض، رغم أن هذا ما يبدو من الكلام، بل مُنصَبٌّ على الشخص الذي تؤخذ منه الفائدة (الربا). وبعبارة أخرى، فإن الآية تتناول مسألة الجشع الذي ينتقص من العدالة… وإن أفضل توضيح للإساءة التي تتحدث عنها الآية الخامسة موجود في سفر نحميا الإصحاح ٥ حيث كان الأثرياء يستغلون الفقراء بين المسبيين بينما كان عليهم أن يساعدوا بعضهم بعضًا.” بويس (Boice)
· إنه أمر وسهل وملائم أن نلقي نظرة على هذه القائمة لنرى أين قَصَّرْنا. غير أنه يفترض في أن رؤيتنا لخطيتنا في هذا المزمور تدفعنا إلى يسوع. فنحن نرى المزمور بأكمله في شبكة العهد الجديد. ونرى أن يسوع قد أكمل متطلبات الناموس ومقاييس هذا المزمور. ونرى بالإيمان أن طاعته حُسبت كطاعة منا، وأننا نتحول إلى صورته، وبهذا يفترض أن من شأن تحقيق هذا المزمور أن يلوِّن حياتنا أكثر فأكثر.
ج) الآية (٥ب): البركة النابعة من هذا المعدن الأخلاقي
٥… ٱلَّذِي يَصْنَعُ هَذَا لَا يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلدَّهْرِ.
١. ٱلَّذِي يَصْنَعُ هَذَا: يخطر ببال داود هنا نظام العهد الجديد الذي يقوم على الأداء. إذ يستطيع كل من يرضي الله بهذا النوع من الأداء أن يتوقع بركة من الرب.
· “يعني الاستمرار في الخطية أن تحبط ذات قصد الله في النعمة. ويعني القيام بذلك أن يستبعَد الشخص من خيمته، ويستثنى من جبل قُدسه.” مورجان (Morgan)
٢. لَا يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلدَّهْرِ: هذا الثبات في الحياة تحت نظام العهد القديم بركة تُعطى للمطيع من الله. وتحت نظام العهد الجديد، فإن وعد الثبات يُعطى للذين يثبتون في الإيمان، حيث يكون مثل هذا الإيمان واضحًا من حياة تعاش بالطاعة بشكل عام.
· الفكرة وراء الكلمات: ’لَا يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلدَّهْرِ‘ هي أن البار سيكون ضيفًا في خيمة الله إلى الأبد (كما في مزمور ٤:٦١). وحسب لغة العهد الجديد، يمكن أن نعبّر عن هذه الفكرة هكذا: “وَٱلْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلْأَبَدِ” (رسالة يوحنا الأولى ١٧:٢).