تفسير سفر المزامير – مزمور ٣١
ملجأ من الضيق في ستر حضور الله
هذا المزمور معنون ببساطة: لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. قال سبيرجن (Spurgeon) بحق عن هذا المزمور: “تثبت هذه الترنيمة التي تتضمن مقادير مختلفة وسلالات متعاقبة من الأسى والويل أنها مقصودة للترنيم العام، وهي بالتالي تمثّل ضربة قاتلة للفكرة القائلة إنه ينبغي أن يقْصُر الترنيم على موضوع التسبيح.” ولا نستطيع أن نحدد المرحلة التي كُتب فيها هذا المزمور لأنه كان في ضيق في أحيان كثيرة. وهو يردد ثقته الشخصية العميقة بالله في أعماق شدّته.
من ميزات مزمور ٣١ أنه يُقتبس كثيرًا في مواضع أخرى من الكتاب المقدس.
· يقتبس مؤلف المزمور ٧١ في بدايته (ربما كان داود نفسه) الآيات الثلاثة الأولى من مزمور ٣١.
· يبدو أن يونان يقتبس الآية ٦، في صلاته المكتوبة في سفر يونان ٨:٢ من جوف السمكة الكبيرة.
· اقتبس إرميا الآية ١٣ ست مرات، في سفر إرميا ٢٥:٦، ٣:٢٠، ١٠:٢٠، ٥:٤٦، ٢٩:٤٩؛ سفر مراثي أرميا ٢٢:٢.
· اقتبس بولس مزمور الآية ٢٤ في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ١٣:١٦ (يقول آدم كلارك إن هذا واضح في الترجمة السبعينية – الترجمة اليونانية المبكرة للعهد القديم).
· الأهم من ذلك، اقتبس يسوع المسيح الآية ٥ وهو على الصليب قبل أن يُسلم الروح (لوقا ٤٦:٢٣). واستفانوس، أول شهيد في الكنيسة، اقتبس أيضًا نفس الآية ٥ (أعمال الرسل ٥٩:٧).
أولًا. توسُّل من أجل الإنقاذ، وثقة باستجابة الله
أ ) الآية (١): الثقة بإله ينقذ شعبه.
١عَلَيْكَ يَا رَبُّ تَوَكَّلْتُ. لَا تَدَعْنِي أَخْزَى مَدَى ٱلدَّهْرِ. بِعَدْلِكَ نَجِّنِي.
١. عَلَيْكَ يَا رَبُّ تَوَكَّلْتُ: يبدأ هذا المزمور بطريقة مشابهة لمزامير كثيرة أخرى كتبها داود بإعلان ثقته بالله في وقت ضيقه. ولا ندري الطبيعة الدقيقة لهذا الضيق أو وقته ما عدا أن داود ابتُلي بشدة (مزمور ٩:٣١-١٣) حتى دفعه إلى اليأس من الحياة، ورغم ذلك، أعلن داود ثقته في الرب.
٢. لَا تَدَعْنِي أَخْزَى مَدَى ٱلدَّهْرِ: يبيّن إعلان داود الجسور بالثقة بأنه لم يخجل بمناشدته الرب. ورأى من المناسب أن يستجيب الرب بعدم السماح لخادمه بأن يُخزى أمام أعدائه وخصومه.
٣. بِعَدْلِكَ (ببرك) نَجِّنِي: لأن داود وثق بالله، طلب منه أن يتصرف بعدل من أجله وأن ينقذه. طلب أن يعمل الله بعدل لمصلحته.
· في أوائل القرن السادس عشر، قام راهب ألماني وأستاذ جامعي اسمه مارتن لوثر بتعليم المزامير آية فآية في جامعة فتنبيرغ. فوصل إلى هذه العبارة في مزمور ١:٣١ (وهي مزمور ٢:٣١ في الترجمة الألمانية)، فأربكه النص. إذ كان يمكن لعدل الله (بر الله) أن ينقذه؟ إذ لا يمكن لبر الله – عدله العظيم – إلا أن يدينه ويرسله إلى الجحيم عقابًا على خطاياه.
· وذات يوم بينما كان لوثر في برج في دير، فكّر في هذا النص من المزمور وقرأ رومية ١٧:١ “أَنْ فِيهِ (في الإنجيل) مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ.” فكّر لوثر ليل نهار إلى أن فهم ما هو بر الله (عدل الله) المعلن في رسالة الإنجيل. فهو لا يتحدث عن دينونة الله البارة على الخاطئ المذنب، بل عن نوع البر الذي يعطيه الله للشخص الذي يضع ثقته بيسوع المسيح.
- تحدّث لوثر عن تلك الخبرة: “فهمت أن بر الله المقصود هو الذي بموجبه يبررنا بالإيمان من خلال نعمته ورحمته الخالصة. ولهذا أحسست بأني وُلِدتُ ثانية وأني دخلت أبواب الفردوس المفتوحة. أصبح نص بولس بالنسبة لي بوابة السماء.” وُلِد مارتن لوثر، وبدأت حركة الإصلاح في قلبه. قال أحد الباحثين اللوثريين العظام إن هذا كان “أسعد يوم في حياة لوثر.”
ب) الآيات (٢-٤): توسُّل للإنقاذ بناءً على علاقة.
٢أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ. سَرِيعًا أَنْقِذْنِي. كُنْ لِي صَخْرَةَ حِصْنٍ، بَيْتَ مَلْجَإٍ لِتَخْلِيصِي. ٣لأَنَّ صَخْرَتِي وَمَعْقِلِي أَنْتَ. مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ تَهْدِينِي وَتَقُودُنِي. ٤أَخْرِجْنِي مِنَ الشَّبَكَةِ الَّتِي خَبَّأُوهَا لِي، لأَنَّكَ أَنْتَ حِصْنِي.
١. أمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ. سَرِيعًا أَنْقِذْنِي. كُنْ لِي صَخْرَةَ حِصْنٍ (ملجأ): حدد داود في الآية السابقة أساس إنقاذ الله له: “بِعَدْلِكَ (ببرك) نَجِّنِي.” ثم ناشد داود الله أن يتصرف ببر من أجل خادمه المحتاج لينقذه ويحميه.
· علّق كلارك (Clarke) على عبارة ’أمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ‘ فقال: “ضع أُذنك على شفتيّ لتسمع ما تقدر شفتاي الضعيفتان على النطق به. عادة ما نقرّب أذننا إلى شفتي شخص مريض أو محتضر حتى نسمع ما يقوله. يبدو أن هذا النص يلمّح إلى هذا.”
· صلى داود: “كُنْ لِي صَخْرَةَ حِصْنٍ، بَيْتَ مَلْجَإٍ لِتَخْلِيصِي،” ثم قال: “لِأَنَّ صَخْرَتِي وَمَعْقِلِي أَنْتَ.” يرى ماكلارين (Maclaren) أن فكرة داود هي: “كن أنت ما أنت. أَظهرْ نفسك في فِعلك لتكون ما أنت في طبيعتك. كن ما عرفتك عنه، أنا خادمك المسكين. تَعلَّق قلبي بإعلانك عن نفسك ولجأ إلى هذا البرج الحصين.”
· “’أنت يا ربُّ… فكن…‘ ينبغي أن تكون هذه صلاة كل مؤمن بالمسيح.” بويس (Boice)
٢. مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ تَهْدِينِي وَتَقُودُنِي: لم يطلب داود أن يُنقذ لأنه كان صالحًا جدًّا بل ’مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ.‘ آمن داود بأنه عندما يهديه ويقوده الرب، فإن هذا سيجلب المجد للرب ولاسمه.
٣. أَخْرِجْنِي مِنَ ٱلشَّبَكَةِ ٱلَّتِي خَبَّأُوهَا لِي: عرف داود أن أعداءه أرادوا أن يوقعوه في شرك ويقضوا عليه، لكنه عرف أيضًا أن الله يستطيع أن ينقذه من أعداء أذكياء عازمين على القضاء عليه.
ج) الآيات (٥-٨): ثقة داود بالرب.
“عند انعطاف التيار، فإن الإيمان لا يتضرع قدر ما يتأمل.” ماكلارين (Maclaren)
٥فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. فَدَيْتَنِي يَا رَبُّ إِلهَ الْحَقِّ. ٦أَبْغَضْتُ الَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً. أَمَّا أَنَا فَعَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ. ٧أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي، وَعَرَفْتَ فِي الشَّدَائِدِ نَفْسِي، ٨وَلَمْ تَحْبِسْنِي فِي يَدِ الْعَدُوِّ، بَلْ أَقَمْتَ فِي الرَّحْبِ رِجْلِي.
١. فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي: طلب داود أن يُنقذ من أعدائه وشِراكهم، لكن ليس ليحيا لنفسه. إذ طرح نفسه على الله، مكرسًا أعمق جزء منه لله.
· عبّر يسوع عن استسلامه وخضوعه الكلي لله على الصليب عندما اقتبس هذا الشطر الشعري من مزمور ٣١. ويسجل إنجيل لوقا ٤٦:٢٣ أن يسوع قال: “يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ.” وهكذا فإنه لم يسلّم حياته بيأس للموت من أجل الهلاك، بل بوعي انتصاري إلى الآب من أجل القيامة.” سبيرجن Spurgeon) نقلًا عن لانج (Lange)
· غير أن استيداع الروح في يدي الله لم يكن مقصورًا على داود وابنه الأعظم. إذ خطر ببال استفانوس، أول شهيد في المسيحية هذا النص عندما نطق بآخر كلماته في أعمال الرسل ٥٩:٧.
- فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي: كانت هذه الكلمات، كما هي في الفلجاتا، الترجمة اللاتينية الكتاب المقدس، تحظى بتقدير عال بين أسلافنا، أولئك الذين اعتادوا الأخطار والصعوبات، والذين كانوا تحت تهديد الموت. استُخدمت هذه الكلمات اللاتينية من قبل المحتضرين إن كانوا عقلاء. وإن لم يكونوا كذلك، كان الكاهن يقولها عنهم.” كلارك (Clarke)
· “كانت هذه آخر كلمات بوليكارب، وبرنارد، وهَس، وجيروم البراجي، ولوثر، وميلانكثون، وآخرين كثيرين.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيرون (Perowne)
· “عندما حُكم على جون هس (John Huss) بأن يُحرق مربوطًا إلى عامود، ختم الأسقف الذي كان يجرى عملية الإعدام بهذه الكلمات المخيفة: ’والآن نودع روحك بين يدي إبليس.‘ فردّ هس بهدوء: ’بين يديك أستودع روحي، أيها الرب يسوع. أستودعك روحي التي فديتها.‘” بويس (Boice)
٢. فَدَيْتَنِي: فهِم داود أن هذا التسليم لله ملائم لأن الله هو الذي فداه. كان ينتمي إلى الله في العرفان بالجميل من أجل الإنقاذ وفي إدراكه أن الله قد اشتراه.
· “نادرًا ما تُستخدم الكلمة العبرية (pada) المترجمة إلى ’فدى‘ إلى الكفارة في العهد القديم. وهي تعني في الغالب ’يُنقذ‘ أو ’يفتدي من أجل الخروج من ضيقة.‘” كيدنر (Kidner)
· “الفداء أساس متين للثقة. لم يعرف داود الجلجثة كما نعرفها. لكن الفداء الزمني كان يبهجه. أفلا يعزينا الفداء الأبدي بشكل أكثر عذوبة؟ إن عمليات الإنقاذ الماضية أساس لتوسلات قوية من أجل عون حالي.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. يَا رَبُّ إِلَهَ ٱلْحَقِّ: هذا سبب آخر للقول إن استسلام داود للرب أمر حسن وملائم. فالرب هو إِلَهُ ٱلْحَقِّ. ويتطلب الحق خدمة داود وولاءه. إذ كان داود مهتمًّا بما هو حق.
٤. أَبْغَضْتُ ٱلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً (الأوثان): عنى داود تسليم نفسه لله مقاومة الاعتراف بها أو عبادتها. فهي أوثان عديمة الفائدة، ولا تقدر أن تتكلم أو أن تخلّص. وبالمقابلة، كان بمقدور داود أن يقول: أَمَّا أَنَا فَعَلَى ٱلرَّبِّ تَوَكَّلْتُ.
٥. أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ: لم يؤدِّ استسلام داود لله إلى تعاسة. إذ كان مبتهجًا فرِحًا. ويعود قدر كبير من ذلك إلى أن قلبه فاض بالعرفان بالجميل، مفكّرًا في كل ما فعله الرب من أجله.
· نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي (ضيقي): كان داود سعيدًا لأنه عرف أن الله لم يتجاهله في وقت ضيقه (مَذَلَّتِي).
· عَرَفْتَ فِي ٱلشَّدَائِدِ نَفْسِي: كان داود سعيدًا لأنه عرف أن لله معرفة جوهرية به، حتى نفسه في أوقات الشدائد.
· لَمْ تَحْبِسْنِي فِي يَدِ ٱلْعَدُوِّ: كان داود سعيدًا لأنه عرف أن الله استجاب (سيستجيب) صلاته في إنقاذه من فخاخ أعدائه.
· أَقَمْتَ فِي ٱلرُّحْبِ رِجْلِي: كان داود سعيدًا لأنه عرف أن الله لم يحفظه من أعدائه فحسب، بل وضعه في مكان من السلامة والأمان.
ü نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي (ضيقي)؛ وَعَرَفْتَ فِي ٱلشَّدَائِدِ نَفْسِي: “عندما نحتار في فهم حالتنا، فإنه يعرفنا كليًّا. لقد عرفَنا، ويعرفنا، وسيعرفنا. ليته يعطينا نعمة لكي نعرفه أكثر! هنالك مقولة فلسفية جيدة تقول: ’أيها الإنسان، اعرف نفسك.‘ لكن المقولة التي تقول: ’أيها الإنسان، أنت معروف من الله‘ أعظم تعزية.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. ضيق وثقة
أ ) الآيات (٩-١٣): يصف داود أعماق ضيقه.
٩اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي فِي ضِيْق. خَسَفَتْ مِنَ الْغَمِّ عَيْنِي. نَفْسِي وَبَطْنِي. ١٠لأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِالْحُزْنِ، وَسِنِينِي بِالتَّنَهُّدِ. ضَعُفَتْ بِشَقَاوَتِي قُوَّتِي، وَبَلِيَتْ عِظَامِي. ١١عِنْدَ كُلِّ أَعْدَائِي صِرْتُ عَارًا، وَعِنْدَ جِيرَانِي بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُعْبًا لِمَعَارِفِي. الَّذِينَ رَأَوْنِي خَارِجًا هَرَبُوا عَنِّي. ١٢نُسِيتُ مِنَ الْقَلْبِ مِثْلَ الْمَيْتِ. صِرْتُ مِثْلَ إِنَاءٍ مُتْلَفٍ. ١٣لأَنِّي سَمِعْتُ مَذَمَّةً مِنْ كَثِيرِينَ. الْخَوْفُ مُسْتَدِيرٌ بِي بِمُؤَامَرَتِهِمْ مَعًا عَلَيَّ. تَفَكَّرُوا فِي أَخْذِ نَفْسِي.
١. اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ لِأَنِّي فِي ضِيْقٍ: خُتم القسم السابق من المزمور بثقة هادئة وعرفان بالجميل لله. وهنا يرفع داود مرثاة تبيّن أن كلًّا من الراحة والشدة تأتيان إلى شعب الله في مواسم. لكن داود ينظر إلى الرب في ضيقه.
· “تتأرجح مشاعر داود بين صعود وهبوط، فكأنه يركب قطار الملاهي، أو يركب موجة عالية ثم يهبط ليرتفع إلى قمة موجة ثانيةً في الختام.” بويس (Boice)
· نَفْسِي وَبَطْنِي: “يشير هنا إلى أمعائه التي في بطنه، والتي كان يُنظر إليها على أنها مقر العواطف ونوافير الدعم والتغذية للجسد كله. وهكذا، فإن الإنسان بأكمله، نفسًا وجسدًا، من الداخل والخارج، يُلتهم.” بوله (Poole)
٢. خَسَفَتْ مِنَ ٱلْغَمِّ عَيْنِي: يصف داود حالته الداعية إلى الرثاء بتعابير تبدو أنها مستعارة من سفر أيوب. كانت بليّته:
· جسمية (ضَعُفَتْ بِشَقَاوَتِي قُوَّتِي، وَبَلِيَتْ عِظَامِي). “لا يعني التعبير الشعري بالضرورة أنه كان مريضًا جسديًا. لكن يمكن أن يعني أن عذابه الذهني قد جفّف قوته الجسدية إلى حدٍ قَرَّبه من الموت.” فانجيميرين (VanGemeren)
· عاطفية (لِأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِٱلْحُزْنِ، وَسِنِينِي بِٱلتَّنَهُّدِ… ٱلْخَوْفُ مُسْتَدِيرٌ بِي).
· اجتماعية (عِنْدَ كُلِّ أَعْدَائِي صِرْتُ عَارًا، وَعِنْدَ جِيرَانِي بِٱلْكُلِّيَّةِ، وَرُعْبًا لِمَعَارِفِي).
· مميتة (بِمُؤَامَرَتِهِمْ مَعًا عَلَيَّ. تَفَكَّرُوا فِي أَخْذِ نَفْسِي).
· روحية (ضَعُفَتْ بِشَقَاوَتِي (إثمي) قُوَّتِي).
ü “هنا تنحسر مشاعر الثقة في فيضان من الدموع.” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. نُسِيتُ مِنَ ٱلْقَلْبِ (مثل إنسان فقد عقله) مِثْلَ ٱلْمَيْتِ. صِرْتُ مِثْلَ إِنَاءٍ مُتْلَفٍ: يعبّر داود شعريًّا بشكل قوي عن مدى اكتمال ضيقه.
· عِنْدَ كُلِّ أَعْدَائِي صِرْتُ عَارًا: “إذا سعى أحدهم إلى الصبر والتواضع، فإنه منافق (عند أعدائه). وإذا سمح لنفسه بشيء من ملذات العالم، فإنه نَهِم. وإذا سعى إلى العدل، فإنه نافد الصبر، وإذا لم يفعل ذلك، فإنه أحمق. إذا أراد أن يكون حصيفًا (حكيمًا بطريقة عملية)، فإنه بخيل. وإذا أراد أن يسعد الآخرين، فإنه فاسق. وإذا كرّس نفسه للصلاة، فإنه مجنون بالعظمة. هذه هي خسارة الكنيسة الكبيرة، حيث يتجنب كثيرون الصلاح الذي يتحسر عليه داود.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن يوحنا ذهبي الفم.
· ٱلَّذِينَ رَأَوْنِي خَارِجًا هَرَبُوا عَنِّي: “إمّا أنهم كانوا مشمئزين مني كوحش بشري، كمنظر كريه؛ وصفوني بأني شرير، واعتقدوا أني كذلك؛ أو هربوا لكي يتجنبوا الخطر والدمار الذي يتسبب في ذلك.” بوله (Poole)
· سَمِعْتُ مَذَمَّةً مِنْ كَثِيرِينَ: “أفضل للإنسان أن يموت من أن يُخنَق بالافتراءات. فنحن لا نقول إلا الأشياء الحسنة عن الأموات. وأما في حالة داود، لم يقولوا إلا ما هو شرير.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. ٱلْخَوْفُ مُسْتَدِيرٌ بِي بِمُؤَامَرَتِهِمْ مَعًا عَلَيَّ. تَفَكَّرُوا فِي أَخْذِ نَفْسِي: كان داود مسحوقًا تقريبًا من الأخطار المحيطة به، تقريبًا… لكن ليس بشكل كلي.
· “كان ينطبق هذا على فترة حكم داود، حيث كانت مملكته محاطة بجيران معادين. لكن ربما كان داود يفكر في المؤامرات ضمن مملكته من قبل أعداء يهود، أو في الأيام التي هرب فيها من الملك شاول.” بويس (Boice)
ب) الآيات (١٤-١٨): يعلن داود ثقته بالله في وسط ضيقه.
١٤أَمَّا أَنَا فَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ يَا رَبُّ. قُلْتُ: «إِلهِي أَنْتَ». ١٥فِي يَدِكَ آجَالِي. نَجِّنِي مِنْ يَدِ أَعْدَائِي وَمِنَ الَّذِينَ يَطْرُدُونَنِي. ١٦أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ. خَلِّصْنِي بِرَحْمَتِكَ. ١٧يَا رَبُّ، لاَ تَدَعْنِي أَخْزَى لأَنِّي دَعَوْتُكَ. لِيَخْزَ الأَشْرَارُ. لِيَسْكُتُوا فِي الْهَاوِيَةِ. ١٨ لِتُبْكَمْ شِفَاهُ الْكَذِبِ، الْمُتَكَلِّمَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ بِوَقَاحَةٍ، بِكِبْرِيَاءَ وَاسْتِهَانَةٍ.
١. أَمَّا أَنَا فَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ يَا رَبُّ: مهما كانت مشكلات داود عظيمة، كانت ثقته بالرب أعظم (فَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ). تَفَحَّص داود مشكلته بعناية، لكنه رفض أن يثبّت نظره عليها طوال الوقت. لقد عرف أن الرب هو إلهه (إِلَهِي أَنْتَ)، ولهذا فإنه أعظم من ضيقته كلها.
٢. فِي يَدِكَ آجَالِي: لم يحتمل داود أن يسلَّم إلى يَدِ أَعْدائِه، لكنه كان في سلام كامل (بل سعيدًا) بمعرفته بأن مستقبله في يد الله “فِي يَدِكَ آجَالِي.”
· كان بمقدور داود أن يقول “فِي يَدِكَ آجَالِي” لأنه فهم بأن الله مسيطر على كل شيء وأنه يحكم من السماء. غير أنه قال هذا أيضًا بإيمان لأنه سلّم كل الأمور في يد الله.
· أخطأ داود في مرحلة متأخرة من حياته بأخذ عملية إحصاء لإسرائيل غير مصرَّح بها. فقدّم له الرب خيارًا بين ثلاث عقوبات، فاختار داود تلك التي تبقيه في يد الله بشكل كامل، شارحًا: “قَدْ ضَاقَ بِيَ الأَمْرُ جِدًّا. فَلْنَسْقُطْ فِي يَدِ الرَّبِّ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ كَثِيرَةٌ وَلاَ أَسْقُطْ فِي يَدِ إِنْسَانٍ” (سفر صموئيل الثاني ١٤:٢٤).
· رأى بويس (Boice) في كل هذا تطبيقًا على كل المراحل التي يمر بها المؤمن بالمسيح:
ü شبابنا في يد الله، الأوقات التي غالبًا ما نكون فيها خاضعين للقرارات التي يتخذها الآخرون عنا.
ü نضجنا هي في يد الله، الأوقات التي ينبغي لنا أن ننشغل فيها بعمل أبينا السماوي ونواجه كلًّا من النجاح والفشل الواضحين.
ü شيخوختنا هي في يد الله، عندما يهتم بنا ويبارك تلك الأيام كما بارك الأيام الأخرى.
· رأى ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan) في تعبير “آجَالِي” وفي المزمور كله تلميحًا إلى المراحلة المختلفة التي يختبرها المؤمن بالمسيح. وأضاف مورجان فكرة: “نحن نحتاج إليها جميعًا لنكمل سَنَتنا.”
ü الخريف (مزمور١:٣١-٨): “برياحه وغيومه المتجمعة، لكن مع أشعة الشمس والثمر الذهبي، رغم أن أنفاس الموت موجودة في كل مكان.”
ü الشتاء (مزمور٩:٣١-١٣): “بارد جدًّا وبلا حياة، ممتلئ بالنشيج والتنهد.”
ü الربيع (مزمور١٤:٣١-١٨): “بأمله الواعد وتوقّعاته وأمطاره الشديدة وأشعة الشمس المتفجرة.”
ü الصيف (مزمور١٩:٣١-٢٤): “وأخيرًا الصيف الساطع الذهبي.”
· “إن كنا نؤمن بأن آجالنا في يد الله، سنتوقع أشياء عظيمة من أبينا السماوي. وعندما ندخل في شدّة، سنقول: ’سأرى عجائب الله، ومن المؤكد أننا سنتعلم ثانية كيف ينقذ الله الذين يتكلون عليه.‘” سبيرجن (Spurgeon)
٣. أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ: استعار داود تعبيرًا من البركة الكهنوتية في سفر العدد ٢٣:٦-٢٧، طالبًا من الرب أن يمطر عليه بخيره وفضله.
٤. لِيَخْزَ ٱلْأَشْرَارُ. لِيَسْكُتُوا فِي ٱلْهَاوِيَةِ: طلب داود من الرب أن يفعل بأعدائه ما نووا أن يفعلوه به.
· لَا تَدَعْنِي أَخْزَى: “… أي لا تخيب آمالي.” تراب (Trapp)
ثالثًا. تسبيح شخصي وجمهوري معًا
أ ) الآيات (١٩-٢٢): يسبح داود الله على مستوى شخصي.
١٩مَا أَعْظَمَ جُودَكَ الَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ، وَفَعَلْتَهُ لِلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ تُجَاهَ بَنِي الْبَشَرِ! ٢٠تَسْتُرُهُمْ بِسِتْرِ وَجْهِكَ مِنْ مَكَايِدِ النَّاسِ. تُخْفِيهِمْ فِي مَظَلَّةٍ مِنْ مُخَاصَمَةِ الأَلْسُنِ. ٢١مُبَارَكٌ الرَّبُّ، لأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ عَجَبًا رَحْمَتَهُ لِيفِي مَدِينَةٍ مُحَصَّنَةٍ. ٢٢وَأَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: «إِنِّي قَدِ انْقَطَعْتُ مِنْ قُدَّامِ عَيْنَيْكَ». وَلكِنَّكَ سَمِعْتَ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ صَرَخْتُ إِلَيْكَ.
١. مَا أَعْظَمَ جُودَكَ ٱلَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ: سبّح نفس داود الذي عرف الضيق في مزمور ٩:٣١-١٣ بشكل رائع في نهاية ترنيمته، لأنه كانت لديه ثقة عميقة بالله (كما تنعكس في مزمور ١٤:٣١-١٨). وقد كوفئت ثقته بالفرح.
٢. تَسْتُرُهُمْ بِسِتْرِ وَجْهِكَ (حضورك): عندما تعرّض داود لهجمات من أعداء كثيرين ومتاعب كثيرة، وجد أمانًا في سِتر حضور الله (وَجْهِكَ). كانت هنالك تعزية وقوة في سِتْرِ حضور الله والشركة الحقيقية معه.
· يبدو أن هنالك مؤمنين كثيرين لا يعرفون الكثير عن سِتْرِ حضور الله. إذ ينظرون إليه على أنه أمر يخص المتصوفين أو الأشخاص الروحيين الخارقين. غير أن داود كان محاربًا ورجلًا له دراية في واقع الحياة. صحيح أنه يبدو أن حياة الروح تأتي لبعضهم بشكل أسهل من آخرين، لكن يوجد جانب من سِتْرِ حضور الله هو لكل من يتوكل عليه.
· بِسِتْرِ حضورك: “’بِسِتْرِ وَجْهِكَ‘ ستكون حياتهم مستترة مع المسيح في الله، حيث لا يستطيع أن يجدهم أعداؤهم. ولا يجرؤ إبليس أن يصل إلى هذا الستر أو المخبأ. ولا تقدر كبرياء الإنسان أن تأتي إليه.” كلارك (Clarke)
٣. مِنْ مَكَايِدِ ٱلنَّاسِ. تُخْفِيهِمْ فِي مَظَلَّةٍ مِنْ مُخَاصَمَةِ ٱلْأَلْسُنِ: كان حضور الله مكانً آمنًا لداود حتى إنه جعله ملجأً له، لا من مكائد أعدائه فحسب، بل أيضًا من هجمات كلامهم (مُخَاصَمَةِ ٱلْأَلْسُنِ).
٤. وَأَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: «إِنِّي قَدِ انْقَطَعْتُ مِنْ قُدَّامِ عَيْنَيْكَ»: في مرحلة مبكرة من ضيق داود، تسرّع بالقول إن الله نسيه ولم يعد يرى فضلًا منه. لكن عندما صرخ إلى الله، سمعه الرب (سَمِعْتَ صَوْتَ تَضَرُّعِي).
ب) الآيات (٢٣-٢٤): دعوة شعب الله إلى تسبيحه.
٢٣أَحِبُّوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَتْقِيَائِهِ. الرَّبُّ حَافِظُ الأَمَانَةِ، وَمُجَازٍ بِكِثْرَةٍ الْعَامِلَ بِالْكِبْرِيَاءِ. ٢٤لِتَتَشَدَّدْ وَلْتَتَشَجَّعْ قُلُوبُكُمْ، يَا جَمِيعَ الْمُنْتَظِرِينَ الرَّبَّ.
١. أَحِبُّوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَتْقِيَائِهِ: لم يكن ممكنًا أن يحتفظ داود بخبرته لنفسه. إذ كان عليه أن يستخدم ما فعله الله في حياته كدافع ودرس لحثّ قديسي الله (أَتْقِيَائِهِ) على أن يحبوا الرب.
· “كان صاحب المزمور غارقًا في متاعبه الخاصة، لكن الشكر وسَّع رؤيته. ففجأة يرى جماهير معتمدين معه على صلاح الرب وخيره. يجوع داود وحده، لكنه يتمتع بالوليمة مع صُحبة.” ماكلارين (Maclaren)
· “إن كنا نسمَّى أتقياء الله أو قديسيه، فهل نحتاج إلى أن يحثنا أحد على أن نحبه؟ إن كان هذا هو واقع الحال، فيا للعار! وأنا متأكد من أننا محتاجون إلى ذلك. فلنخجل من أنفسنا ونشعر بالارتباك كيف أننا نحتاج إلى من يحثنا على أن نحب ربنا.” سبيرجن (Spurgeon)
· لا تفتقر النفس التي تحب الله إلى أسباب لكي تحبه. قال سبيرجن (Spurgeon) عن الدعوة إلى محبة الرب قائلًا: “لديها ألف حجة لتعزيزها.”
ü أحببِ الله بسبب تفوُّق معدنه الأدبي.
ü أحببِ الله لأن هذه ممارسة مُسرة ومُربحة.
ü أحببِ الله لأن هذا مفيد.
ü أحببِ الله لأن هذا سيطهرك من الخطية.
ü أحببِ الله لأن هذا سيقوّيك في أيام المحن.
ü أحببِ الله لأن هذا سيقوّيك للخدمة.
ü أحببِ الله لأن هذا سيجعلك نبيلًا.
· “ارفع صمامات كيانك، ودع فيضانات حياتك تتدفق في الجدول المخلَّص، لأنك لا تقدر أن تحب الرب بشكل زائد. يمكننا أن نبالغ في بعض مشاعر طبيعتنا القوية، ونحو أشياء معينة يمكن أن نحبها بشكل زائد. لكن القلب الموجه إلى الله لا يمكن أن يكون حارًّا بشكل زائد، أو متحمسًا بشكل زائد. ’أَحِبُّوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَتْقِيَائِهِ.‘” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ٱلرَّبُّ حَافِظُ ٱلْأَمَانَة (الأمناء)ِ، وَمُجَازٍ بِكِثْرَةٍ ٱلْعَامِلَ بِٱلْكِبْرِيَاء: كلا الجانبين صحيح. فالله يقاوم المتكبرين ويعطي نعمة للمتواضعين. ويحمل هذا التشجيع على تسبيح الرب تحذيرًا للذين لا يفعلون ذلك.
٣. لِتَتَشَدَّدْ وَلْتَتَشَجَّعْ قُلُوبُكُمْ، يَا جَمِيعَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ ٱلرَّبَّ: ختم داود مزموره كقائد وصديق، مشجعًا الآخرين على أن يجدوا ما وجده في الله. فلدى شعب الله سبب يدعوهم إلى أن يتشددوا ويتشجعوا، لأن الله يقوّي القلب المتكل عليه والذي يرجوه.
· لِتَتَشَدَّدْ وَلْتَتَشَجَّعْ قُلُوبُكُمْ: “أيها الأصدقاء، إذا أردتم أن تخرجوا من خنوعكم، وميلكم إلى الخوف والقنوط، يتوجب أن ترفعوا وتحمّسوا أنفسكم. وهذا أمر متوقف عليكم. فالنص يقول: لِتَتَشَدَّدْ. لا تجلسوا مكتوفي الأيدي قائلين: ’ليس بيدي حيلة. هكذا أنا، وهكذا سأبقى.‘ لا ينبغي أن تكون كذلك. فأنت مأمورٌ في النص، باسم الله، أن تتشدد. فإن كنت خاملًا هكذا، فلا تتوقع من نعمة الله أن تعمل فيك كما لو أنك لوح خشبي ليحوّلك الله إلى شيء ضد إرادتك. لا. بل يتوجب عليك أن تصمم على أن تتشدد.” سبيرجن (Spurgeon)