تفسير سفر المزامير – مزمور ٩٩
الإله القدوس، حاضرًا ومعلنًا
هذا المزمور الذي لا عنوان له في النص العبري إعلان ثلاثي لقداسة الله، كما يشير إليه إشعياء لاحقًا (إشعياء ٣:٦).
“وهنا بعد المزمور ٩٨، مزمور البهجة الخالية من الهموم، نتذكر كيف أن الرب مرتفعٌ وقدوس، وكيف أننا ندين له بتوقير عميق.” ديريك كيدنر (Derek Kidner)
أولًا. حضور الله المقدَّس
أ ) الآية (١): الله موجود في مقدسه.
١اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. تَرْتَعِدُ الشُّعُوبُ. هُوَ جَالِسٌ عَلَى الْكَرُوبِيمِ. تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ.
١. اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ: للمرة الثالثة يبدأ مزمور بهذه العبارة (انظر مزمور١:٩٣؛ مزمور١:٩٧). ويتحدث المزمور ٩٩ عن حضور الله (هُوَ جَالِسٌ عَلَى الْكَرُوبِيمِ)، لكنه في حضوره يملك. فهو ليس حاضرًا فحسب، بل هو ملك يحكم.
٢. تَرْتَعِدُ الشُّعُوبُ (فليرتعد الشعب): إنه أمر ملائم في حضرة الإله المتسيد أن نرتعد. فحتى الأرض يمكن أن تتزلزل عند حضوره. فكم بالأحرى ينبغي للشعب أن يتأثر!
· “يرتعد القديسون بعاطفة تقية، بينما يرتعد الخطاة رعبًا يدركون حُكم الرب ويحسّون به بشكل كامل.” سبيرجن (Spurgeon)
· “استهزأ رجال العالم بالكويكرز (Quakers) على ارتعادهم وهم تحت قوة الروح القدس. ولو أنهم كانوا قادرين على تمييز جلال الكائن السرمدي، لارتعدوا هم أيضًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. هُوَ جَالِسٌ عَلَى (ساكن بين) الْكَرُوبِيمِ: الله متوّج في مقدسه. يصعب القول إنْ كان قد خطر ببال صاحب المزمور مقدس الله السماوي أم تمثيله على الأرض (خيمة الاجتماع والهيكل). وكلاهما صحيح. ويمكن أن تكون الإشارة هنا إلى أيٍّ منهما.
· “عرشه الحي من الكروبيم – وليس من صور كيوبيد غير المسلّح كما يصوَّر في الفن الديني، بل من الكائنات القوية التي لخصت أشكالها مملكة المخلوقات الأرضية بأكملها بالنسبة لحزقيال – هذا العرش الحي عربة طائرة نارية بدينونة وخلاص.” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (٢-٣): الله في صهيون.
٢الرَّبُّ عَظِيمٌ فِي صِهْيَوْنَ، وَعَال هُوَ عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ. ٣يَحْمَدُونَ اسْمَكَ الْعَظِيمَ وَالْمَهُوبَ، قُدُّوسٌ هُوَ.
١. الرَّبُّ عَظِيمٌ فِي صِهْيَوْنَ: الله موجود في السماء وفي الأرض كلها، لكن صهيون، مدينة أورشليم، تحتل منزلة خاصة لدى الرب. وفي هذه المدينة المبنية على الجبال، فإن الرب مرتفع فوق الشعوب.
· الرَّبُّ عَظِيمٌ فِي صِهْيَوْنَ: “ترتيب الكلمات في النص العبري مختلف. فهو: الرَّبُّ فِي صِهْيَوْنَ عَظِيمٌ.” بوله (Poole)
٢. يَحْمَدُونَ اسْمَكَ الْعَظِيمَ وَالْمَهُوبَ: يحمد الله بحق بسبب عظمته ولانه قُدُّوسٌ.· قُدُّوسٌ هُوَ: تحمل فكرة القداسة في جوهرها فكرة الانفصال أو الفرز. فهي تصف شخصًا أو شيئًا مفرزًا من بين أشياء أخرى أو أشخاص آخرين. ويمكن أن يكون شيء ما مقدَّسًا إذا أُفرز لإرادة الله وقصده. ويمكن ان يكون الشخص مقدس إذا فرز نفسه لمشئية الله وهدفه.
· تُستخدم القداسة لتوكيد المسافة بين الله والإنسان، ليس أدبيًّا (أخلاقيًّا) فحسب، كما بين ما هو نقي وما هو ملوث فحسب، بل في مجال الكينونة، بين السرمدي والمخلوق أيضًا.” كيدنر (Kidner)
· الله نفسه مفرز بمعانٍ كثيرة. فهو مفرز من الخليقة، من حيث إن الله ليس مخلوقًا. وهو موجود خارج كل خليقة. فلو انحلّت كل خليقة، لبقيَ الله. وهو منفصل عن البشرية، من حيث إن طبيعته (جوهره) إلهية لا بشرية. فليس الله إنسانًا خارقًا أو الإنسان الأسمى. وليس الله مجرد أذكى من أي إنسان، أو أقوى من أي إنسان، أو أكبر (أقدم) من أي إنسان. فلا تستطيع أن تقيس الله حسب مقاييس البشر على الإطلاق. فهو إلهي في طبيعته بينما نحن بشر.
· إن قداسة الله جزء من كل ما هو فيه، من هويته ومن كل ما يفعله. فقوة الله قوة مقدسة، ومحبته محبة مقدسة، وحكمته حكمة مقدسة. فليست القداسة مجرد جانب من شخصية الله. فهي جوهر كل كينونته.
· “مع أن الكلمة نفسها تدل على الانفصال – وقد استُخدمت في الإشارة إلى آلهة أخرى كانت تعبدها شعوب وثنية – إلا أنها اكتسبت دلالة جديدة في الإعلان الإلهي. فقد أُعلِن الله بصفته منفصلًا عن كل ما (مَن) هو ظالم وكاذب وشرير في طبيعته الأخلاقية، وهو لهذا هو هكذا في كل معاملاته مع البشر، سواء أكان ذلك في إعطاء الشريعة، أم في أنشطة الحكم.” مورجان (Morgan)
· قُدُّوسٌ هُوَ: “بما أن هذه العبارة لا تأتي في نهاية هذه الآية فحسب، بل أيضًا في الآية الخامسة، ومن ناحية عملية في التاسعة، يبدو أنه كانت توجد فرقة ترنم هذه العبارة بشكل رزين جاد في خاتمة كل جزء من هذه الأجزاء. كانت قداسته – نقاوة طبيعته الطاهرة – السبب وراء تعظيمه وتسبيحه وعبادته.” كلارك (Clarke)
ثانيًا. قوة الله المقدسة
أ ) الآية (٤): قوة بر الله.
٤وَعِزُّ الْمَلِكِ أَنْ يُحِبَّ الْحَقَّ. أَنْتَ ثَبَّتَّ الاسْتِقَامَةَ. أَنْتَ أَجْرَيْتَ حَقًّا وَعَدْلاً فِي يَعْقُوبَ.
١. وَعِزُّ الْمَلِكِ أَنْ يُحِبَّ الْحَقَّ: من ناحية نظرية فقط، يمكن أن تُستخدم قوة الله العظيمة وسيادته للشر. غير أن الرب الملك يحب العدل وقد أجرى عدلًا.
· “ليس الرب حاكمًا تعسُّفيًّا. فحُكمه هو لتعزيز العدالة.” ماكلاين (Maclaren)
· “لا يسيء الله استخدام قوته الملكية لأغراض الاستبداد، لكنه يربطها بعدالته واستقامته. فالحُكم من دون برّ وعدل إنما سرقة بالسلطة.” تراب (Trapp)
٢. أَنْتَ أَجْرَيْتَ حَقًّا وَعَدْلاً: “ليست العدالة والإنصاف عند الله مجرد شعارات ووعود. فقد أجرى حَقًّا وَعَدْلاً بين شعبه وفي العالم، وسيظل يفعل هذا.
· “لدى معظم الممالك مؤسسة من نوع ما، وهي في الغالب غير عادلة. وهنا لدينا مؤسسة هي نفسها العدالة. إذ يهدم الرب إلهنا كل نظام للظلم. وهو يُجري الحق والصواب.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إن الحكم الملكي الذي يفرح بالمكر والمحاباة والقوة الغاشمة نقيض للمَلَكية الإلهية، تمامًا كما أن الظلام نقيض للنور. فليس قَصْر الرب حصنًا للسارق أو قلعة للمستبد فوق زنازن مبنية بحجارة نحَتَها عبيد الأرض الكادحون، ورصفتها دماء المنهكين.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآية (٥): الاستجابة الملائمة لقوّته المقدسة.
٥عَلُّوا الرَّبَّ إِلهَنَا، وَاسْجُدُوا عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ. قُدُّوسٌ هُوَ.
١. عَلُّوا الرَّبَّ إِلهَنَا: يفترض أن يقودنا فهمنا إلى قوة الله وقداسته وصلاحه إلى أن نعلّيه ونعبده بتواضع.
٢. وَاسْجُدُوا عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ: يرى معظم المفسرين أن هذا يشير إلى تابوت العهد، وهو مرتبط بفهم “بين الكروبيم” في الآية ١. إذ يُدعى تابوت العهد “موطئ قدميه” (١ أخبار ٢:٢٨)، لكن هذه التسمية تنطبق على أورشليم (مراثي إرميا ١:٢)، وعلى الأرض ككل أيضًا (إشعياء ١:٦٦؛ متى ٣٥:٥؛ أعمال ٤٩:٧).
· “هدف إعلاء الله والعبادة عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ هو أن نخضع لقيادته ونستجيب بشكل ملائم لحضوره المقدس.” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. قُدُّوسٌ هُوَ: تتكرر هذه العبارة التي وردت في الآية ٣ للتأكيد. والله قدوس في كل كينونته وفي كل ما يفعله.
· “يُدعى الله في الكتاب المقدس قدوسًا مرّات أكثر من أية صفة أخرى، أكثر من ’السيد‘ (المتسيد)، وأكثر من ’عادل‘ وأكثر من ’رحيم‘ أو ’محب.‘ بل إن كلمة قدوس هي اللقب الوحيد الذي يتكرر للتوكيد، كما يرد في إشعياء ٣:٦ “قدوس، قدوس، قدوس”، وفي رؤيا يوحنا ٤: ٨).” بويس (Boice)
· “القداسة هي انسجام كل الصفات الإلهية معًا. فليست لدى الرب صفة إلهية مجيدة وحيدة، أو صفة موجودة بإفراط. لكن كل الأمجاد موجودة فيه ككل. هذا هو تاج كرامته وكرامة تاجه. فقوته أو سيادته ليست جوهرته المختارة، بل قداسته.” سبيرجن (Spurgeon)
ثالثًا. الإعلان المقدس عن الله
أ ) الآيات (٦-٧): أُعلِن الله لكهنته.
٦مُوسَى وَهَارُونُ بَيْنَ كَهَنَتِهِ، وَصَمُوئِيلُ بَيْنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِهِ. دَعَوْا الرَّبَّ وَهُوَ اسْتَجَابَ لَهُمْ. ٧بِعَمُودِ السَّحَابِ كَلَّمَهُمْ. حَفِظُوا شَهَادَاتِهِ وَالْفَرِيضَةَ الَّتِي أَعْطَاهُمْ.
١. مُوسَى وَهَارُونُ بَيْنَ كَهَنَتِهِ: أدرج صاحب المزمور ثلاثة كهنة مرموقين في تاريخ إسرائيل، وهم موسى وهارون وصموئيل. لقد صلى هؤلاء (دَعَوْا الرَّبَّ)، فأعلن الله نفسه لهم (وَهُوَ اسْتَجَابَ لَهُمْ).
· “لكي يشجع صاحب المزمور الأمناء على عبادة الله، ذكر أمثلة موسى وهارون وصموئيل كدليل. كانوا أشخاصًا ذوي ضعفات مثلنا، فسُمعت صلواتهم من أجل أنفسهم ومن أجل الآخرين.” هورن (Horne)
· “مارس موسى وظائف الكاهن برش دم العهد (خروج ٢٤: ١-١٨)، وفي الطقس المرتبط بتكريس هارون وأبنائه (لاويين ٨: ١–٣٦)، إضافة إلى الاحتفال الأول للعبادة في خيمة الاجتماع (خروج ٤٠: ١٨–٣٣).” ماكلاين (Maclaren)
· كهنته: “هذا اسم فاعل من الفعل ’يخدم‘ (كاهن = خادم). وهو يُستخدم هنا بشكل فضفاض للإشارة إلى ’الخدام‘ أو المتشفعين. فقد تشفّع موسى وهارون وصموئيل في شعب إسرائيل.” فانجيميرين (VanGemeren)
· بَيْنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِهِ: “من الواضح أن الذين يدعون باسمه يمثلون طبقة خاصة مميزة… إنه لشرف عظيم أن تُدعى بَيْنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِهِ. فإذا لم تكن قادرًا على أن تجد مكانك في أية طبقة أخرى، فربما تجد نفسك في هذه الطبقة.” ميير (Meyer)
٢. بِعَمُودِ السَّحَابِ كَلَّمَهُمْ: كان عمود السحاب التمثيل المادي لحضور الله مع إسرائيل في البرية. إذ تكلم الله مع موسى من عمود السحاب ذاك (خروج ٩:٣٣).
٣. حَفِظُوا شَهَادَاتِهِ: لاحظ صاحب المزمور طاعة موسى وهارون وصموئيل بشكل عام.
ب) الآيات (٨-٩): أُعلِن الله في الغفران والقداسة.
٨أيُّهَا الرَّبُّ إِلهُنَا، أَنْتَ اسْتَجَبْتَ لَهُمْ. إِلهًا غَفُورًا كُنْتَ لَهُمْ، وَمُنْتَقِمًا عَلَى أَفْعَالِهِمْ. ٩عَلُّوا الرَّبَّ إِلهَنَا، وَاسْجُدُوا فِي جَبَلِ قُدْسِهِ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنَا قُدُّوسٌ.
١. إِلهًا غَفُورًا كُنْتَ لَهُمْ: استجاب الله لهؤلاء (ولغيرهم) الذين طلبوه. أعلن لهم عن نفسه بأنه إِلهًا غَفُورًا. وإنه لأمر ذو دلالة أنه حتى هؤلاء الرجال الذين يقال عنهم إنهم حَفِظُوا شَهَادَاتِهِ (الآية ٧) احتاجوا إلى هذا الإعلان عن الإله الغفور.
٢. وَمُنْتَقِمًا عَلَى أَفْعَالِهِمْ: ليس واضحًا إن كان الأشخاص الذين يشار إليهم هنا هم الكهنة المذكورين في الآية ٦ (موسى وهارون وصموئيل) أم الشعب الذي صلّوا من أجله (إسرائيل ككل). ويرى معظم المفسرين أن كلمة أَفْعَالِهِمْ تشير إلى أفعال إسرائيل. لكن هذا صحيح أيضًا بالنسبة لموسى وهارون وصموئيل، حيث إن الله عبّر عن خيبة أمله فيهم بطريقة ما.
· “عفا الله عنهم، لكنه أظهر استياءه من أعمالهم الردية. فأدّبهم، لكنه لم يُبِدْهم. وقد ثبت هذا بوضوح على مدى تاريخ إسرائيل.” كلارك (Clarke)
· “كان أمينًا عبر تاريخ شعبه، في كل من الغفران والانتقام. وهو لهذا قدوس. يكمن هنا سبب العبادة. وهنا يكمن سبب الارتعاد.” مورجان (Morgan)
٣. عَلُّوْا الرَّبَّ إِلَهَنا: ومرة أُخرى، يطالَب القارئ بأن يعلي الله، وأن يعبده، وأن يدرك قداسته.
٤. لِأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَنا قُدُّوس: تُعلن قداسة الله مرة ثالثة توكيدية. وفي وقت لاحق، سيسمع النبي إشعياء (إشعياء ٦: ٣) والرسول يوحنا (رؤيا ٤: ٨) في رؤى سماوية هذا الإعلان الثلاثي لقداسة الله في جملة واحدة.
· “هذا هو أسمى هدف للثقة بالله، وهو أيضًا أسمى إلهام للعبادة.” مورجان (Morgan)